ارتفعت حناجر الشعوب العربية للمطالبة بإسقاط النظام فى أوقات تكاد تكون متزامنة، بدأ الأمر فى تونس، حيث ردد الثوار(الشعب يريد إسقاط النظام)، ثم أخذت الثورة المصرية عنهم هذا الشعار، والشعار مصاغ صياغة عبقرية دالة، دعت عبره الشعوب إلى إسقاط النظام الذى أوصلها إلى حالة غير مسبوقة من التردى، والشيخوخة، والفقر، والعوز، والكبت، والقمع، والتخلف عن ركب الحضارة.
وقد فهم كثير منَّا أن مفهوم مصطلح (إسقاط النظام) يعنى إسقاط الرئيس، وحاشيته، والزمرة التى حكمت البلاد فى عهده، وأولئك الذين انتفعوا انتفاعًا مباشرًا من الفساد الذى استشرى إبان حكمه، سواء أكان فسادًا ضد القانون أم كان فسادًا مقننًا، ثم امتد هذا الفهم ليشمل كل موظفى الدولة الكبار، والحقيقة أننا فى حاجة إلى كثير من التدقيق فى مفاهيم المصطلحات التى انتشرت إبان الثورة خاصة فى أيامها الأولى، فلا ينبغى علينا أن نقنع بما أملته علينا المعالجات الظاهرية، والتحليلات المبتسرة، دون أن نتأمل ونتعمق فى تحليل هذه المدلولات.
لقد خلط كثيرون بين (النظام) وبين (الوحدات المكونة للنظام)، فالنظام يتكون من وحدات هى: العنصر الإنسانى، والسياسات التى انتهجها لإدارة شئون الدولة، والأيديولوجيات التى اتبعها.. أو بعبارة أخرى المنظومة الفكرية الشاملة التى استخدمها ذلك العنصر الإنسانى.. والعنصر الإنسانى – كوحدة من وحدات النظام- ينقسم إلى فريقين: الأول الذى يقرر السياسات ويفرضها، ويتمثل فى الرئيس وحاشيته، والصقور المؤثرين من حزبه، والفريق الثانى هو الذى ينفذ السياسات ويتمثل فى موظفى الدولة الكبار.
ونتيجة للفهم المبتسر للمصطلح اضطربت الأحوال فى المرحلة الماضية، فظهرت الدعوات لإقالة أناس هم فى الحقيقة من الفريق الثانى مثل: رؤساء الجامعات والعمداء، ورؤساء الشركات، وغيرهم، بدعوى أنهم من النظام، وهؤلاء جميعًا كانوا منفذين للسياسات التى يقررها أو يفرضها الفريق الأول.. كما انتشرت المظاهرات التى دعت إلى إقالة وزراء فى الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، مع أن كثيرًا منهم مشهود لهم بالوطنية؛ وبعضهم تولى وزارته بمباركة ميدان التحرير.. وهذا ما قد يفسر لنا أنه بالرغم من مرور ثمانية أشهر أو يزيد على الثورة فإن البلاد لم تتقدم كما كان متوقعًا، بل إن الأحوال صارت إلى الأسوأ، مما جعل رجل الشارع ينحو باللائمة على الثورة.
وحتى تستقيم الأمور، ويتحقق للشعب ما يأمله، يجب العمل فعلا على (إسقاط النظام) بكل مكوناته، من خلال تبديل بقية المنظومة الفكرية البائدة وتغييرها، ومنها بالطبع السياسات التى أدت حقيقة بالشعب إلى حالة الثورة، وانتهاج سياسات جديدة.
ولكن هذا الأمر لا يحدث بين يوم وليلة، وإنما يحتاج إلى دراسة وتفكير وتخطيط إستراتيجى على المدى القصير والمتوسط والطويل، حتى لا يتحول الشعب مرة أخرى إلى حقل للتجارب، وحتى لا نتسرع مرة أخرى فنستورد سياسات أدت إلى مشاكل كبيرة عند تطبيقها فى معاقلها، خاصة مع ظهور عيوب قاتلة فى تلك السياسات بداية من الاشتراكية التى جربناها فى الماضى، وانتهاء بالرأسمالية التى تتسبب فى أزمات مالية خانقة ليس فقط على مستوى الدولة، وإنما على المستوى العالمى أيضًا، ولعلنا نلاحظ ما يحدث الآن فى أمريكا معقل الرأسمالية.. وحتى يتحقق هذا الهدف فإننا بحاجة أولا إلى عبور الفترة الانتقالية حتى تكتمل هيئات الدولة التى تستطيع أن تحقق هذا الهدف...
