يسير فى الدرب القديم، يتذكر تلك الغرفة فى هذا المنزل العتيق الشامخ فى نهاية الدرب، يداعب أنفه خليط الروائح المنبعثة من الدرب ودكاكينه، ولكنه يميز أنفاسها وسط هذه الروائح المتراكمة؛ خليط روائح البخور ودخان الشيشة المتصاعد من القهوة القديمة، مع روائح الدكاكين العطنة، بأقبيتها وأبوابها الخشبية المكتسية بشباك العنكبوت، روائح العطور مع روائح بول الخيول التى كانت تصهل فى هذا الدرب، ثم أصبحت تقف ذليلة منكسرة مربوطة فى العربات (الكارو)، رائحة السقط ودماء الذبائح، مع رائحة الزهور التى تقاتل من أجل الظهور، وسط هذه الروائح المتراكبة، هذه هى حديقة زهورها الصغيرة، تآكلت مساحتها حتى كادت تتلاشى. ولكن هاهى شجيرة الكاميليا البيضاء لا تزال باقية.
تتحول جميع الروائح- أيا كان مصدرها- فى أنفه إلى عطرها، يبقى أريجها باقيا متناثرا فى ربوع الدرب، بل وفى كل ربوع الكون بالنسبة إليه، يسمع صوتها يهمس باسمه وسط نداءات الباعة وزئير الفتوات، وصراخ الأطفال، صهيل الخيول واصطدام سنابكها بالأرض، ما زال يسمع موسيقاه وسط ميكروفونات الباعة، صراخ الأطفال الذى لا يتبدل، نشاز الغناء من السيارات والبيوت. لكن ما زال همسها باق لا يتبدل يشبه تقاسيم عود عبد البديع على المقهى القديم فى الليالى الدافئة.
بل ها هى تقف وسط زهورها زهرة متفردة تعتنى بشجيرة الكاميليا البيضاء.
يتجاوز الخيول الواقفة فيما بينهما كى يراها، تفاجئه سيارة مسرعة يتلافاها بصعوبة، يمر الشيخ عباس بمبخرته يطوحها فى الهواء، يمر شيخ الحارة من أمامه، ثم يقف أمامه هذا الشاب الذى يتحدث بصوت عال فى (الموبايل )، يقف أمامه رجل يشير إلى أحد الأغراب تجاه البيت القديم قائلا : هو دا البيت بتاعه.
يحنى جسده كى يراها فى الناحية الأخرى بين هذا الزحام الغريب، تلتقى أعينهما، تبتسم، تهمس باسمه ممسكة بزهرة الكاميليا البيضاء، تتوجه ناحيته، يتوجه ناحيتها، تسقط الزهرة على الأرض لتدهسها سنابك خيل هذا الفارس، ثم تمزقها عجلات سيارة مسرعة، يرجع للخلف، ثم ينظر تجاهها، يجد أخاها يجرها إلى داخل البيت، يقف عاجزا عن الحركة.
يسمع الرجل يقول للغريب: وأخوها حبسها فى بيتهم.
تضيق الدنيا فى وجهه، تدمع عيناه، وما زال الصوت يرن فى أذنيه، ما زال الأريج يداعب أنفه، صورتها تملأ عينيه.
يتوجه ناحية بيته، الرجل والغريب يسيران أمامه، يقول: وفى الليل هربت من بيتها، وذهبت إليه فى هذا البيت.
يصل إلى بيته، يصعد الدرج المتعرج الذى تهدمت أجزاؤه، يدخل إلى غرفته، يسدل الليل ستائره، تسيطر عليه صورتها، ينتشى بعطرها، يتحدث الكون كله بصوتها، يزداد عطرها حضورا وقوة، يسمع طرقات على الباب، يفتح، يجدها أمامه خائفة متلفتة، يغرق فى بحار عينيها، تدفعه قائلة: لازم نهرب هيقتلنا.
يقف الرجل أمام المنزل ومعه الغريب: وأخوها أحرقهم فى هذه الغرفة. ومن يومها منذ أكثر من مئتى عام إلى وقتنا هذا، فى كل عام فى نفس الميعاد، نرى الغرفة تفتح أبوابها ثم تحترق كما تراها الآن.
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود نوفل
رائع جداا
عدد الردود 0
بواسطة:
sweet dream
amazing
wooooow 7lwa awe bgd amazing !!
عدد الردود 0
بواسطة:
Many
منتهى الروعة
قصة جميـــــلة وخيال رائـــــع فوق الوصف !!
عدد الردود 0
بواسطة:
mai ghazy
wooooooooooooow
شكراااااااااا
عدد الردود 0
بواسطة:
muhammad El-diasty
رائع يا مصدق