إن قيمة الثورات تكمن فى قدرتها على إحداث التغيير الجذرى الحقيقى، وهو الأمر الذى يتجسد فى استبدال قواعد العمل فى مجتمع ما قبل الثورة بقواعد عمل جديدة بعد الثورة، تعكس أو تترجم أهداف الثورة وأحلام الثوار. فلو لم يحدث ذلك، فإن الثورة تصبح فى مفترق الطرق، إما أن تكون قد سرقت أو ركبها أصحاب المصالح والفاسدون والانتهازيون، وإما أنها أجهضت وبالتالى أصبحت فى خبر ماض بلا أثر تركته، وإما أن تكون فى حالة مقاومة وصراع شديدين مع القوى المضادة للثورة حتى لو ركبتها فئة ما، فإن مصيرها إلى الخروج وانتصار القوى الثورية. والصفة الغالبة فى الثورات الكبرى التى تسعى للإطاحة بالنظام الحاكم كاملا، عادة ما تكون لفترة من الوقت فى حالة صراع إلى أن تنتصر فى النهاية، وقليل من الثورات شهد انتكاسات ثم سرعان ما تظهر القوى الثورية الكاملة لتؤكد حيوية الثورة باعتبار أن أصحابها هم جموع الشعب وليس فقط هم الذين بادروا بها، ودعوا إليها ونظموا من أجل تحقيقها، وهو الأمر الذى يجعلنى دائماً متفائلا أن الثورة المصرية فى 25 يناير 2011، سوف تنتصر ليس بمن تصدر المشهد، وليس بمن ركبها وحاول إجهاضها، ولكن بمن يحمل ضميرها ويبذل كل الجهد المخلص من أجل انتصار مبادئها.
وأزعم أننى واحد من جموع الثوار الذين بذلوا الجهد لتمهيد الأرض أمام الثورة، وأزعم أننى كنت شريكا متضامنا مع الثوار الشباب الذين دعوا إلى مظاهرات يوم 25 يناير، وشاركتهم فى الإعداد وفى التظاهر طيلة السنوات الماضية وحتى آخر تظاهرة كانت هى طلقة النهاية فى جسد نظام فاسد ومستبد هو نظام مبارك، وأزعم أننى مناضل مع الثوار مع بدء الثورة وحتى الآن.
وكنت دائما فى صف البرنامج الطبيعى للثورة الطبيعية، حيث بعد إجبار حسنى مبارك على التنحى، وحل مجلسى الشعب والشورى، كنت أدعو إلى تفكيك مؤسسات ورموز حكم النظام السابق، والإعداد الحقيقى لبناء نظام ديمقراطى يضمن للبلاد الاستقرار الحقيقى والتقدم وللشعب كل الرفاهية، ولكن بكل أسف نشطت القوى المضادة بدعم مباشر صمتا أو تشاركا من الحكومة ورموزها بل المجلس العسكرى نفسه سواء جانب منه أو كله، حيث صبت كل هذه الجهود فى دعم القوى المضادة حتى أوصلت الثورة إلى ما نحن فيه الآن، وأصبحت فى مفترق الطرق.
وحاولت القوى المضادة الدفع باتجاه «انتخابات وهمية» فى محاولة للانقضاض على الثورة والسلطة، وإجهاض الثورة تماما ليعيش نظام مبارك مرة أخرى برموزه وسياساته.
وباعتبارى واحدا من رموز الثورة، أبى ضميره أن يساير هذه المؤامرة الخبيثة، التى سار فيها مناضلون بحسن نية أو بدوافع شخصية، فما كان على إلا أن نبهتهم إلى مخاطر ما يفعلون، وكأننا حريصون على اقتناص كرسى فى البرلمان وكأنه الهدف المبتغى!!
ويسوؤنا أن عدداً من الناس ومن الشباب يوجهون لنا اتهامات حرصا على الانتخابات بأننا نستهدف المصالح الشخصية لا العامة، ولهم مبررات فى ذلك.
لذلك، فإننى قد درست الموقف كله برمته ومن جميع جوانبه، واستجمعت شجاعتى، فى مواجهة هذا الموقف الصعب بإجراء وقرار حاسم، فمهدت فى المقال السابق بالدعوة إلى «المقاطعة الجماعية للانتخابات باعتبارها هى الحل وخاطبت فيها شرفاء الأمة وشباب الثورة، وأرجعت أسباب دعوتى إلى خمسة أسباب، ما زلت رغم ما تعرضت إليه من ضغوطات لا مثيل لها لإثنائى عن قرار المقاطعة، أرى فيها صوابا، ويرى كثيرون معى سلامة هذه الأسباب وواقعيتها وتعاطفوا مع قرارى بالمقاطعة.
إن قرار مقاطعتى للانتخابات الوهمية التى تجرى فى مصر على خلفية نظام انتخابى كسيح ومشبوه، لا يعرفه الشعب حتى الآن، هو صرخة احتجاج مدوية تلفت الأنظار إلى أن التعامل مع ما حدث فى 25 يناير لايزال تعاملا خارج نطاق أنه ثورة شعبية حقيقية قادها شباب مصر العظيم ولا يزال تعاملا يختزل ما حدث فى اعتباره مجرد «انتفاضة شعبية» كان هدفها هو الإطاحة بحسنى مبارك وتوريث السلطة لنجله جمال، والإطاحة ببعض الرموز الكبيرة، ووضعهم فى مكان آمن على حياتهم خوفا من غضب الشعب المصرى الذى قد يصل إلى الانتقام منهم وقد أظهرت خطوات سير المحاكمات أنها محاكمات وهمية، تلعب على عنصر الوقت لحين إدماجنا فى العملية السياسية وستصدر الأحكام مثل الشهادات التى أعلن عن مضمونها على لسان المشير طنطاوى والفريق عنان، إلى براءات أو سجن لمدد بسيطة يكون غرضها تهدئة الرأى العام وكل عام وأنتم بخير فى ثورتنا العظيمة فقد قام المجلس العسكرى بالسيطرة على السلطة، بتفويض من لا يملك التفويض، ولكن لاقى ذلك قبولا شعبياً على أمل أن المجلس قد يدعم الثورة شكلا ومضمونا، لكنه فى الحقيقة سيطر على السلطة واغتصبها لنفسه وأوهم الجميع أنه حام للثورة، ولكن اتضح أنها حماية شكلية وأن المضمون الحقيقى هو حماية نظام مبارك وقواعده المؤسس عليها من شبكات فساد واستبداد ومال واستثمارات خارجية بحيث يلقى بالفتات - كما كان يفعل حسنى مبارك ورموزه - لفقراء المجتمع وكأنه يمن على هذا الشعب رغم أنه مالك هذه الثروات فلم يقترب المجلس العسكرى من قواعد حكم حسنى مبارك ولا رموزه ولا سياساته، ومكث يتعامل معنا بالاستجابة لمطالب الثورة بالقطعة لإسكات صوت الثورة، وهو يلتف حولها ويجهضها بحكم الوقت. ومن خلال قراءة المشهد، وما تم حتى الآن على مدار ما يقرب من تسعة أشهر «يناير - أكتوبر 2011»، يجعلنى أقول إننى أصبحت متشككا فيما يجرى ومتوجسا خيفة مما يحاك فى الخفاء لهذا الوطن.
وقد حذرت فى مقالات سابقة فى هذا المكان طوال الأشهر الماضية وقلت فى أحد المقالات: «يبقى الوضع على ما هو عليه، لحين ميسرة»، وقلت فى مقال آخر: «الفشل الذريع للمجلس العسكرى والحكومة فى إدارة الفترة الانتقالية»، وقلت فى مقال ثالث: «إما أن تستجيبوا لنا وتحققوا مطالب الثورة وإما الرحيل» ، وفى مقالات عديدة صرخت ضد النظام الانتخابى المشبوه وهو من صنع لجنة السياسات وأمن الدولة ورموز النظام الانتخابى، وحذرت من الكارثة المتوقعة، وطرحنا البدائل التى توافقت عليها القوى السياسية دون استثناء، ولا حياة لمن تنادى، فالأجندة تعمل بكفاءة منقطعة النظير، أثنت عليها وزيرة خارجية أمريكا، قائلة إن المجلس العسكرى يلتزم بالخطة الزمنية لنقل السلطة إلى المدنيين!! أين هذه الخطة لا أعرف؟!
وحذرت فى مقال بعنوان: «من يدفع ثمن الثورة: الفقراء أم الأغنياء؟!»، وخلصت إلى أن الأصل فى الثورة أن الأغنياء يدفعون الثمن لكى يعيش الفقراء ونقضى على الظلم، إلا أن الأشهر السابقة أكدت أن الفقراء مازالوا دون تحسن، وأنهم دفعوا الثمن مرتين، الأولى: بتقديم ألف شهيد وعشرة آلاف جريح، والثانية: أنهم لايزالون فى وضع متدن ولم تتحسن أحوالهم المعيشية، على حين يعيش الأغنياء وكأن الثورة لم تحدث فى مصر؟! وكل ذلك يتم لغياب الحكومة، وغياب المجلس العسكرى الذى ركز مهمته الرئيسية فى الحفاظ على نظام مبارك، والاستجابة بالقطعة ومغازلة القوى السياسية بالفتنة السياسية واستثمار عنصر الوقت حتى تجهض الثورة، وكل ما تم مخطط وعمدى وليس عفويا لمن لايريد أن يفهم.
ولذلك: فإننى أقدم اعتذارى إلى الشعب المصرى، وجماهير دائرتى وهم جزء غال من الشعب، عن عدم التقدم للترشح فى هذه الانتخابات الوهمية لعدة أسباب هى:
1 - محاولة إتمام الانتخابات بنظام انتخابى لا يعلم الشعب عنه شيئاً، وهو تزوير وتزييف مسبق لإرادة الشعب صاحب السلطة والسيادة.
2 - إجراء انتخابات طويلة تمتد لخمسة شهور فى سابقة غير مسبوقة فى العالم، لن يدفع ثمنها إلا الشعب المصرى كله، وقد كان الأولى عدم استمرار مجلس الشورى والاكتفاء بمجلس الشعب فقط، لو كانت إرادة سياسية فى التغيير.
3 - عدم إصدار قرار بالعزل السياسى لنحو مائة ألف ممن أجرموا فى حق هذا الشعب من قيادات الحزب الوطنى ونواب الشعب والشورى والمحليات وسبق أن أوضحناهم قبل بدء إجراء الانتخابات، وقد أوضحت البيانات فى الأيام الأولى للترشح أن %90 من المرشحين هم من قيادات الحزب المنحل!!
4 - عدم سلامة النظام الانتخابى «فردى / قائمة» وهو إزهاق للشعب وإزهاق لروح المشاركة، وكان يقتضى تغيير النظام الانتخابى بعد الاستقرار عليه مدة ستة أشهر على الأقل إلى سنة حتى يعلم الشعب به، وإلا يعتبر ذلك خداعا وخيانة للشعب.
5 - انعدام الغطاء الأمنى للانتخابات، الأمر الذى ينذر بكارثة، ولقد كانت «موقعة ماسبيرو» قبل فتح باب الترشح بأيام رسالة لمن يهمه الأمر بما ينتظر مصر خلال أيام الانتخابات لكى يكون ذلك مبرراً لإلغاء الانتخابات فى أى لحظة وهو الأمر المنتظر والمتوقع!!
وأخيراً: فإن تجمع قوى المال والنفوذ والسلطة ورموز الفساد، وإقدامهم على الترشح بلا خجل وسط حماية من الحكومة الفاشلة والضعيفة وكذلك حماية المجلس العسكرى، وعدم إصدار قرار بالعزل السياسى، لكفيل بتكوين برلمان ضد الثورة هو امتداد لنظام مبارك، ويخجل المرء من المشاركة فيه، فاعذرونى، ووعدا باستمرار النضال حتى تنتصر الثورة وتتحقق مطالبها، ولايزال الحوار مستمراً.
د. جمال زهران يكتب: اعتذارى وأسفى للشعب المصرى وللثوار عن عدم ترشحى فى الانتخابات الوهمية
الأربعاء، 19 أكتوبر 2011 01:34 م
د. جمال زهران
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
كريم فهمى
على راى طلعت السادات انتوا عايزين تخلوا الساحة من كل السياسيين
عدد الردود 0
بواسطة:
سامي السباعي
خيبك الله يا دكتور
عدد الردود 0
بواسطة:
Hassan Aboelhassan
لماذا نترك الساحة للمنافقين وأصحاب الذمم الخربة
عدد الردود 0
بواسطة:
حسن مصطفى
قبل الثورة وبعد الثورة
عدد الردود 0
بواسطة:
رضا عزازى
مقالة وانذار للشعب
عدد الردود 0
بواسطة:
Samir Aser
أؤيدك فى كُل ماذكرته من عوامل تزييف
أؤيدك فى كُل ماذكرته من عوامل تزييف وبيع الأوهام
عدد الردود 0
بواسطة:
مهاب
شكرا لك احنا
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد سعيد
للأسف
عدد الردود 0
بواسطة:
م/أحمد سعيد
عقبــــال كل النخبــــــة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد صلاح
مش معاك