لن تتحرك مصر خطوة واحدة إلى الأمام ما لم يتعامل حكامها مع المصريين كمواطنين لا أرقام، وماداموا لم يلاحظوا بعد أن كلمة مواطن تحتوى جميع حروف كلمة وطن، وأن الوطن يرتفع إذا ارتقى المواطن، ويهان إن أهين.
نعم يا سادة، نحن مجرد أرقام فى سجلات الحكومات المتعاقبة قبل الثورة وبعدها، يولد المصرى فيحمل رقمه وينضم إلى 85 مليون رقما آخر تحملهم الدولة كل أوزارها، وتتهمهم بالتسبب فى الفقر الذى يعيشه أكثر من ثلثيهم بالزيادة السكانية غير المحسوبة، يدخل المدرسة فيحمل رقما جديدا ضمن عدة ملايين تتحمل الحكومة تكاليف تعاليمهم وتكون مضطرة لتوفير مقعد متهالك له فى فصل مكتظ بمدرسة آيلة للسقوط، يتخرج من الجامعة فيصبح رقما فى طابور البطالة، يموت محروقا فى قطار أو غارقا فى عبارة أو مدهوسا تحت مدرعة، فيتحول إلى رقم من الضحايا.
وباء الأرقام انتقل من الحكومة إلى المصريين أنفسهم، فلا يتذكر أحد من ضمن 27 شابا ماتوا فى أحداث ماسبيرو سوى مينا دانيال، ولا يمكن لمواطن مثقف أن يحصى أكثر من عشرة أسماء من بين 800 زهرة قطفها النظام السابق فى الثورة، ولا يعرف أى منا اسم ضحية واحدة من بين الآلاف الذين فقدوا أرواحهم فى قطار الصعيد، أو عبارة السلام أو مراكب الهجرة غير الشرعية، حتى الزوجة عندما تريد أن تشكو أحد الجيران لزوجها تقول: "شفت الراجل اللى فى شقة 23 عمل إيه؟!".
أعرف ويعرف المصريون جميعا جندى إسرائيلى المسمى جلعاد شاليط، جاهدت بلاده للعثور عليه طوال 5 سنوات، وشنت فى سبيله حربا على غزة قبل عامين، وعندما فشلت فى استعادته بالقوة قايضته بـ1027 أسيرا فلسطينيا. هذا الجلعاد كان أهم اسم فى إسرائيل طوال السنوات الخمس الماضية، يتلقف الإسرائيليون حكومة وشعبا أى خبر عنه، ويحتل أى تصريح مقتضب من والده المواطن الإسرائيلى البسيط مكانا مميزا بالصفحة الأولى فى كل الصحف العبرية.
الغريب أن إسرائيل لا تفعل ذلك مع الأحياء فقط، بل إنها عقدت صفقة تبادل مع حزب الله عام 2004، تسلمت بموجبها رفات 3 جنود تم قتلهم فى لبنان عام 2000، مقابل 436 سجينا ورفات 59 قتيلا لبنانيا، هذا الاحترام لقيمة المواطن حيا كان أو ميتا سبب بقاء إسرائيل وسط الملايين من كارهيها طوال الستين عاما الماضية، وهذا الاحترام لقيمة المواطن نتطلع إليه نحن مع حكومات وأنظمة تتلكأ حتى الآن فى المطالبة بحق مئات الأسرى المصريين الذين سحقتهم إسرائيل تحت دباباتها أيام نكسة 1967 فى جريمة حرب موثقة بالصوت والصورة.
هذا الاحترام لكرامة وحرمة المواطن لم يعرفه أعداؤنا فقط، بل إن التاريخ الإسلامى يحوى على أمثلة كثيرة تعلى من قيمة المواطن المسلم وتعتبر أى اعتداء عليه بمثابة إعلان حرب على الدولة الإسلامية كلها، وما فعله الخليفة العباسى الثامن "المعتصم بالله" دليل على ذلك.
علم المعتصم بأن ملك الروم أسر امرأة مسلمة، والروم بمعايير زمانها تعادل أمريكا اليوم، فأرسل إليه رسالة شديدة اللهجة قال فيها: "من المعتصم خليفة المسلمين إلى كلب الروم لقد علمت بأنك أسرت امرأة مسلمة فأطلق سراحها وإلا فوالذى بعث محمدا بالحق لأسيرن لك جيشا أوله عندك وآخره عندى"، وعندما وصلت الرسالة إلى ملك الروم ارتعدت فرائصه، وأمر بإعادة الأسيرة معززة مكرمة إلى خليفة المسلمين.
عندما قرأت هذه القصة لأول مرة شعرت أن فيها الكثير من المبالغة، لكننى ببعض البحث وجدتها بنفس الرواية فى كل كتب التاريخ الإسلامى، ووجدت إلى جوارها الكثير من القصص التى تبين كيف كان المواطن عزيزا فى هذه الفترة، وعندها عرفت لماذا وصلت الدولة الإسلامية لأقصى اتساع لها فى عهد العباسيين.
هكذا يحترم أعداؤنا الإنسان وهكذا احترمه أجدادنا، وإن كنا نريد لمصر الخير دعونا من الجدل السياسى العقيم وأجلوا جلسات تقسيم التورتة بعض الوقت، وتعالوا نحترم بعضنا ونجبر حكامنا على احترام آدميتنا، جربوا ولن تندموا.