لا تدع الشوارع المصقولة تخدعك، ولا تتأثر أو تنبهر بالمشاهد الطبيعية الخلابة التى تعكسها لها جبال "تابل مونتن" التى تحتضن مدينة "كيب تاون" عاصمة جنوب أفريقيا، الدولة المشهورة أفريقيا بأنها "أوروبية الطابع" بشوارعها النظيفة، وأبراجها الزجاجية التى تلتمع بلافتات كبرى شركات البزنس" MTN" للمحمول، أو "أبسا" المصرفية، أو LG"، هذه هى المعالم الرئيسية التى استقبلتنى بعد وصولى بدقائق إلى مطار كيب تاون لحضور مؤتمر "هاى واى أفريكا" للإعلام الأفريقى، الذى استضاف عددا كبيرا من الإعلاميين الأفارقة على مدى أربعة أيام فى الفترة من 15-19 سبتمبر.
جئت إلى جنوب أفريقيا، محملا برغبة فى التعرف عن قرب على هذه التجربة الديمقراطية التى وثبت بجنوب أفريقيا، بعد وصول مانديلا للحكم عام 1994، إلى مصاف الدول المتقدمة، وجعلها تنافس فى شتى المجالات، واستثمرت مناجم الماس التى تحتضنها أرضها، فتهاوت عليها استثمارات رجال الأعمال، واستطاعت أن تنتزع من مصر حق تنظيم كأس العالم فى موقعة "الصفر الشهيرة"، كما أنها تنافسنا الآن على مقعد دائم فى مجلس الأمن.
العنصرية زالت قانونا، لكنها لم تزل موجودة فى المعاملات اليومية، هكذا اختصرت لى "مواغيتى ليتخيو" إحدى المشاركات فى المؤتمر، حال جنوب أفريقيا، بعد مرور كل هذه السنوات على تولى "نيلسون مانديلا" رئاستها واستحواذ حزبه " ANC" على غالبية الأصوات فى الحكم.
وأضافت "مواغيتى": الفقر موجود فى كل مكان، لا تدع هذه المبانى المصقولة تخدعك، أو هذه الشوارع النظيفة اللامعة تغرر بك، الفقراء يعيشون فى "أعشاش" بالقرب من المطار، والبيض يستحوذون على كل شىء، وحزب مانديلا الحاكم الذى يهيمن على 70% من الحكم الآن، لا يستطيع انتزاع أى شىء من "البيض" الذين يديرون كبرى الشركات، ويضغطون على الحكومة لإصدار قانون يمنع تداول المعلومات.
أولى المظاهرات التى تزامنت مع أيام المؤتمر، الذى يدعو خلال جلساته إلى حرية الإعلام، وتتكرر خلالها كلمات عن الحكومة ويدها التى يجب أن تترك "الميديا" فى حال سبيلها، كانت من تنظيم حملة بعنوان "من حقك أن تعرف" أوRIGHT TO KNOW هذه الحملة، نظمت مظاهرة ضخمة أمام مبنى البرلمان، يوم السبت 17 سبتمبر فى الصباح، من العاشرة حتى الثانية ظهرا، الغضب كان واضحا على ملامح المتظاهرين، الذين صنعوا تمثالا مضحكا لرئيسهم جاكوب زوما، وكانوا يهتفون فى إصرار ضد قانون "سكرسى بيل" الذى يحظر تداول المعلومات، فى محاولة منهم لإجهاض موافقة البرلمان عليه.
كانت المفارقة الكبرى التى جعلتنى أشعر "بأن فيه حاجة غلط" أن تقوم الحكومة بتمرير هذا القانون للبرلمان، فى الوقت الذى تستضيف فيه الدولة هذا المؤتمر الضخم، الذى يتناول حرية الإعلام، كيف عاد أبناء جنوب أفريقيا بلافتات كتبوا عليها "توقفوا عن إخفاء الحقيقة"، إلى نفس الميدان الذى شهد تجمهرهم عام 1991 عقب الإفراج عن مانديلا، لتحيته وتأييده، قبل أن يكتسح فى انتخابات عام 1994 بأغلبية ساحقة، ليصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا.
أحد الصحفيين الأفارقة المشاركين فى المؤتمر، أبدى لى امتعاضه من مشهد محاكمة مبارك، قائلا: "هل رأيت ما فعله مانديلا عندما جاء للحكم؟ كان من الممكن أن ينتقم ممن تسببوا فى سجنه طوال عشرين عاما فى جزيرة "روبن أيلاند" ولكنه سامحهم، وعفا عنهم، وانطلق مباشرة إلى التقدم والحرية والديمقراطية، فلماذا لا تعفون عن مبارك؟
جاءت هذه الكلمات فى أول جلسة شاركت فيها، فى المؤتمر، رددت فى ثقة أمام الحضور: "مصر تخطو الآن أولى خطواتها نحو الديمقراطية، بإرساء مبدأ العدالة الذى ظل غائبا طوال حكم مبارك، مصر الآن تعطى درسا لجميع شعوب العالم بمحاكمتها رئيسها، وقلت أيضا: "نحن لم نعدم مبارك، لم نقتله، لم نسحله، لم نغرقه فى البحر، لم نجوعه، وهو ارتكب كل هذه الأفعال طوال سنوات حكمه، نحن فقط نحاكمه".
هذه الكلمات نالت استحسان أغلب الحضور، إحدى المشاركات فى الجلسة من "موريشيوس" قالت لى: "الأفارقة لا يعرفون أن مبارك "ديكتاتور"، نحن نعرف ذلك بحكم اطلاعنا على الصحافة البريطانية، والأمريكية، التى لا تجمل صورته"، فيما صارحنى صحفى آخر من كينيا بصدمته من كم التزييف الذى شاب معالجات إحدى الصحف المصرية الشهيرة عن مبارك، فيما أشار "سامى لحود" –لبنانى يعمل فى بنك فى مدينة دبى- إلى أن الأفارقة يرون مصر هى الدولة الكبرى فى القارة، ولا يتخيلون أن تسجن رئيسها أو تحاكمه.
العلاقة بين الرئيس ومواطنيه فى جنوب أفريقيا، ليست منطقة محظورة الطيران، كما اعتدنا فى مصر، طوال العهد السابق، لمست ذلك بنفسى، عندما طالعت خبرا يوم الأحد فى صحيفة "city Pres" وصفت فيه رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما بالحائر بين زوجتيه، الذين يصطحبهما معه خلال زيارته إلى الولايات المتحدة، التى تزامنت مع أيام المؤتمر لحضور اجتماع لمجلس الأمن، فيما حملت نفس الصحيفة، صورة لمانديلا، مع أحد أحفاده، الصحيفة حرصت على وضع قصة مانديلا الذى استقبل حفيدا جديدا له، فوق قصة "زوما"، فيما اعتبرته تقديسا من الصحيفة لمانديلا، الذى يقضى سنوات شيخوخته، فى قريته، معتزلا الصحافة، والسياسة، والإعلام، ويتذكره مواطنوه، الذين يشعرون بدبيب الثورة، تطرق باب وطنهم، بعد أن استفحل "البزنس" فى السيطرة على مقدراتهم، يشعرون بأن الثورة تقف على أعتاب وطنهم، كما تقف الحواجز عائقا بينهم وبين العيش فى المناطق الراقية فى "كيب تاون".
جنوب أفريقيا على أعتاب الثورة.. الصحافة تسخر من الرئيس بنشرها قصة عن زوجتيه.. والبيض يستحوذون على أفضل المناصب ويقصون الإعلام من نقدهم.. والسود يتظاهرون أسبوعيا ضد الفقر والغلاء
السبت، 01 أكتوبر 2011 11:47 ص
مظاهرات جنوب أفريقيا
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سيد الكومى
البشر بشر فى أى مكان
شئ جميل ربنا يزيد ربنا يبارك