لا أرغب فى تكرار ما سبق أن كتبته فى هذا الموضوع، رغم أنه يبدو أن البديهيات صارت فى حاجة للتكرار وإعادة التأكيد.. مسألة سخيفة ومملة، وكأنها مشهد مسرحى يعاد عرضه بلا توقف مرات ومرات، والغريب أن الناس ترى بعيونها وتسمع بآذانها، ولكن تبدو بعض العقول غائبة أو مغيبة..
من الذى يعلق الجرس فى عنق القطة؟.. أم أننا جميعاً نفتش عن قطة سوداء فى حجرة مظلمة؟.. لن أفتش فى ضمير أحد، ولكننى أرجو من الجميع، خاصة من يتصدون للعمل العام، رجال الدين، السياسيون، الإعلاميون، المعلمون.. إلخ، أرجوهم جميعاً أن يفتشوا فى ضمائرهم، فلعلهم يتبينوا أين مكمن الخطأ والخطر..
"تيريز" زميلة الصف الدراسى الجميلة، أصيبت بمرض غامض، ذهبنا جميعاً إلى منزلها لنزورها ونحن نحمل الزهور، وزعت علينا والدتها قطع الشيكولاتة، وكانت تيريز شاحبة ضامرة لكنها كانت قادرة على الابتسام والترحيب بنا، ملاك طاهر فوق فراشها الأبيض .. بعد بضعة أسابيع ماتت، وبكيناها جميعاً.. بالنسبة لى كانت صدمة هائلة فى هذا العمر المبكر.. وبعد سنوات طويلة وجدتنى أكتب عنها قصة قصيرة نشرتها فى إحدى الصحف..
كان "جورج وديع" أكثر رفاق الطفولة شقاوة وخفة ظل وتهوراً.. اتفق معنا على أن نصحبه لإحدى الكنائس التى يتواجد فيها قبو به مقبرة لقديسة يسورها سور قصير، ويقوم الرواد بإلقاء بعض العملات الصغيرة فى المساحة المحيطة بالمقبرة..
لدهشتنا، فوجئنا بأن جورج ينحنى فوق السور ويمد كفه الصغير كجاروف يجمع به بعض هذه العملات ويدسها فى جيبه، ثم طلب منا أن نسارع بالخروج.. وبينما كنا نتسابق فوق درجات السلم أوقفنا أحد القساوسة وعلى وجهه ابتسامة وديعة.. وطلب منا أن نقف وراءه كى نصلى، فرضخنا جميعاً ونحن نرتعد، وبعد أن انتهى من تراتيله رددنا خلفه "آمين"، وكان جورج وثروت هما الوحيدان اللذان أتقنا رسم الصليب بأيديهما، ونتيجة لخوفنا وارتباكنا أطلقنا سيقاننا للرياح متسابقين خارج الكنيسة، بينما القس الطيب يضحك بصوت مسموع..
لم أشك لحظة واحدة وحتى الآن فى أن القس رأى ما فعله جورج، والطريف أن المسلمين فى مجموعتنا كانوا يتوقعون أن المصائب ستحل بجورج، وأن ذراعه سوف يشل لأنه اعتدى على نذور فى بيت الله، ولكنه كان يسخر منا ويؤكد أنه كلما احتاج نقوداً يذهب إلى هذه الكنيسة، وكان يبرر فعلته النكراء بأن الرب هو الذى يملك هذه النقود، وأنه أخذها من الرب وليس من أى أحد..
فى الصف الثانوى، كان عاطف بشاى المهاجر من السويس يرتبط بصداقة عميقة مع سامى عبد الحفيظ، وقد كانا مثاراً للتندر حيث كان كلاهما يحاول جذب الآخر إلى دينه، فقد كان عاطف يريد أن يدخل صديقه سامى الطيب إلى الجنة، وكان ذلك بالضبط ما يريده سامى له، ولم يغير أحدهما دينه، واستمرت صداقتهما بلا تغير، وتركا مسألة الآخرة للآخرة..
لقد كتبت قبل ذلك عن مقاتل الصاعقة جابر يواقيم "اليوم السابع فى عدد 4 أكتوبر الماضى" بمناسبة حلول ذكرى حرب أكتوبر، وقد اختتمت ذلك المقال قائلاً: "أردت أن أرسل رسالة للدراويش الذين يريدون زرع الفتنة فى أرضنا الطيبة، أقول لهم فيها: "لقد دافع عن شرف هذا الوطن كل أبناء مصر، ولو أننا حافظنا على جوهرة ذلك الموقف العظيم فى قلوبنا وأعمالنا، لو أننا لم نحول دروس تلك الأيام المباركة إلى مدائح خرافية، لو أننا فهمنا أن أكتوبر لم تكن مجرد قرار، وإنما مئات الآلاف من أبناء هذا الوطن الطيب.. لو حدث ذلك لما تحول ذلك اليوم العظيم إلى ضريح نكتفى بزيارته كل عام للتبرك والتمسح به، ولتمسكنا بنسيج هذا التراب الذى اختلط بدماء كل المصريين بلا فرق".
كتبت فى مواضع أخرى عن بلامون غطاس وجرجس وغيرهما من رفاق السلاح الذين حاربت معهم فى معركة العبور.. لقد كنا فى نفس الخنادق، نأكل نفس الطعام، نشرب نفس المياه، نحلم نفس الحلم، نتألم نفس الألم.. لم يكن يدهشنا أن بلامون هتف ذات مرة فى حديث غاضب قائلاً: "لا إله إلا الله.."، كان صعيديا شهما وواحدا من أبطال مصر.. كما لم يدهشنا أن محمد الراوى عند احتداد مناقشة أقسم قائلاً: "والمسيح الحى.."..
فى سنوات الجبهة ما قبل العبور، كان رفاق السلاح من المسيحيين يصومون رمضان معنا باختيارهم، بل إن مدمنى التدخين منهم كانوا يمعنون فى التخفى كى يدخنوا.. بينما كان الضابط النوبتجى يراعى أثناء الصيام الخاص بالمسيحيين أن يعد مطبخ الكتيبة طعامهم الخاص..
قبل شهرين من العبور تقريباً، حكى لنا جرجس عن حلم رأى فيها السيدة العذراء.. قال لنا إن وجهها كان مبتسماً، وأنه يشعر أننا سننتصر.. وقتها بالطبع مازحناه، قال له عبد الفتاح: "بركاتك يا مقدس"، بينما اقترب منه الآخرون هازلين يتحسسون جسده التماساً للبركة، وهو يضحك مؤكداً أن وجه السيدة العذراء كان واضحاً، وأن الحرب قريبة، وأننا سننتصر..
كيف أنسى قصة الحب التى ربطت بين صديقى المسلم عادل وابنة الجيران نوال المسيحية، كانا يتبادلان الرسائل الرومانسية، ويتقابلان فى الكازينوهات الممتدة على النيل، حتى علم شقيقها نسيم، وكان يكبرنا ببضعة أعوام، فلم يفعل سوى أنه التقى بعادل وطلب منه أن يهتم بدراسته أولاً ووعده إذا تخرج متفوقاً من جامعته فإنه سوف يحاول إقناع والديه بزواجه من شقيقته، ولكنه طلب منه أيضاً أن يقطع علاقته مع نوال حتى يحين ذلك الوقت، ووافق عادل على مضض، وقد كابد عادل وكابدت نوال عذاب الفراق..
ومرت السنين، وتخرج عادل، ولكن أثناء هذه الفترة تمت خطبة نوال لشاب مسيحى وسيم.. وحضرنا جميعاً ومعنا عادل حفل الزفاف الأنيق.. ما زلت أذكر حين اقترب نسيم من عادل وعانقه بشدة وهو يقول له مداعباً: "يا أخى أنا كنت فاكر إن اسمك عادل عبد المسيح!!".. ضحكنا جميعاً وانضمت إلينا بعد ذلك نوال مع عريسها.. كانت متألقة فى فستان زفافها، وملامح وجهها تشع بسعادة وفرح..
ما سبق هو بعض أيام عمرى، ولدى العديد من الحكايات المماثلة ولكننى اخترت أول ما ورد إلى خاطرى.. ليس فى بالى أن أعظ أحدا أو أغير فكر أى إنسان، وإنما أستعيد هذه الصور فى محاولة كى أفهم، أو ربما لأشيح بأفكارى بعيداً عما نسمعه ونراه من تصرفات غير مصرية.. نعم.. أقولها بملء الفم: "غير مصرية"..
لا يمكن أن أختتم هذا المقال دون أن أتقدم إلى أسر ضحايا الحادث الأخير بالعزاء.. العزاء ليس فقط لأبناء مصر من المسيحيين، وإنما لكل أبناء مصر الأبرار، وأكرر ما كتبته فى مواقع أخرى: "فى هذا الوطن.. كلنا أقباط"، وأرجو للمرة المليون أن نكف عن استخدام مصطلح "عنصرى الأمة"، فعلى أرض مصر لا يعيش سوى عنصر واحد "المصرى"، وأكرر مع قداسة البابا شنودة: "أن مصر ليست وطناً نعيش فيه، وإنما وطن يعيش فينا".
• عضو اتحاد الكتاب المصرى