مين أين نبدأ؟!.. من التاريخ أم من الجغرافيا؟!!.. التاريخ هو التاسع من يناير الذى يوافق وضع حجر الأساس لبناء السد العالى (1960)، أعظم مشروع إنشائى فى القرن العشرين، كما تؤكد التقارير الدولية.. وهو نفس موعد الاستفتاء على فصل جنوب السودان.. تلك المؤامرة الامبريالية التى ترعاها أمريكا وحلفاؤها بحماس وهمة مشهودين بمشاركة وتواطؤ نظام البشير الذى يضحى بالسودان الواحد من أجل إقامة إمارة إسلامية فى الخرطوم يواصل فيها حكمه المستبد وإقصاء المعارضة الوطنية بكافة أطيافها؟!!..أما الجغرافيا فتمتد من جوبا عاصمة جنوب السودان، حيث تجرى مؤامرة التقسيم إلى الإسكندرية، حيث وقعت جريمة كنيسة القديسين مستهلة عاما أسود آخر فى "المشروع الساداتى" الذى قوض الأمن القومى المصرى والعربى، لأنه فشل فى صون وحماية العمودين الأساسيين اللذين يقوم عليهما أمننا القومى، وهما الوحدة الوطنية ومياه النيل، وحتى لا يبدو الربط بين الأمور والأحداث غريبا أو متعسفا سأعود إلى تصريحات الجنرال عاموس يادلين المدير السابق لجهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) والتى أدلى بها مطلع نوفمبر الفائت فى حفل أقيم بمناسبة تسليمه مهام منصبه لخليفته.. ففى معرض استعراضه لأهم ما حققه جهازه من إنجازات خلال أربع سنوات ونصف قضاها على رأسه، أكد أن مصر تقع فى القلب من أنشطة هذا الجهاز، ولاتزال تشكل أحد أهم مسارح عملياته، وأضاف بالنص "لقد تطور العمل فى مصر حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979 (أى بعد توقيع معاهدة السلام؟!).. فقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً ومنقسمة إلى أكثر من شطر لتعميق حالة الاهتراء داخل المجتمع والدولة المصرية، ولكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك فى معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشى فى هذا البلد".
كما اعترف يادلين بدور إسرائيلى واسع فى مساعدة الحركات الانفصالية فى السودان، قائلا: "لقد أنجزنا خلال السنوات الأربع والنصف الماضية كل المهام التى أوكلت إلينا واستكملنا العديد من التى بدأ بها الذين سبقونا، أنجزنا عملاً عظيماً للغاية فى السودان، نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية فى جنوبه ودربنا العديد منها، وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجيستية لمساعدتهم ونشرنا هناك فى الجنوب ودارفور شبكات رائعة وقادرة على الاستمرار بالعمل إلى ما لا نهاية، ونشرف حالياً على تنظيم الحركة الشعبية هناك وشكلنا لها جهازاً للأمن والمخابرات".
ومن الإنجازات التى أوردها الجنرال يادلين كذلك، نجاح الإسرائيليين فى فصل الكنيسة الأثيوبية عن الكنيسة القبطية الأم فى القاهرة؟!!. وهذا الاختراق الأخير يمثل بدون أدنى شك ضربة مزدوجة للأمن القومى المصرى تستهدف الوحدة الوطنية ومياه النيل معا!!.. وربما يٌلقى هذا الاعتراف الخطير ضوءا كاشفا على إصرار أمريكا المعلن على فصل جنوب السودان، وخطط إسرائيل المستترة للمساعدة فى تأسيس دولة انفصالية جديدة على مجرى النهر للتحكم فى شريان حياة مصر وتنفيذ المخطط الصهيونى القديم الذى يستهدف تزويد إسرائيل بمياه النيل.. أما عن كلام يادلين عن الاختراقات الاقتصادية فيكفى تدمير الزراعة (بالخبرة الإسرائيلية) وتخريب القطاع العام ونهب البنوك ثم كارثة تصدير الغاز بثمن بخس إلى عدونا الاستراتيجى!!..
ونعود إلى مشروع السادات الذى بدأت أول ملامحه تتشكل غداة العبور العظيم حين أبلغ الأمريكيين بأنه لا يعتزم تطوير العمليات العسكرية إلى أبعد مما وصلت إليه فى عمق سيناء، فكشف للعدو متطوعا عن نواياه وخططه الاستراتيجية مما كان له آثار كارثية على سير العمليات الحربية على الجبهتين المصرية والسورية.. وهنا وقع ما أطلق عليه البعض "خذلان السياسة للسلاح".. ثم تم تدشين "عملية سلام" بشروط إسرائيلية، راهنت، ولا تزال، على الولايات المتحدة ووضعت فى يدها 99% من أوراق اللعبة متوهمة بغباء تحسد عليه أن هناك اختلافا بين المصالح الاستراتيجية لكل من واشنطن وتل أبيب!!. وبعد أن سكتت المدافع ووضعت الحرب أوزارها وتم توقيع كامب ديفيد ثم معاهدة السلام، تفرغ السادات لبناء مشروعه اليمينى المتماهى مع الأجندة الأمريكية والقائم على أعمدة ثلاثة هى السلام والتطبيع مع العدو السابق، والانفتاح الاقتصادى، والترويج للفكر السلفى المتخلف الذى يقر بالطاعة العمياء لولى الأمر وتحريم الخروج عليه تحت أى ظرف من الظروف مما يضمن له سلطة أبدية ومقدسة كـ"كبير للعائلة"، و"أمير للمؤمنين"!!.. وهناك من المتخصصين من هم أقدر منى بالقطع على تبيان وتفصيل ما أدى إليه الانفتاح الساداتى الذى وصفه كاتبنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين بـ"انفتاح السداح مداح" من تخريب وتبوير وتبديد وإفقار طوال ما يربو على 35 عاما حتى صارت كل برامج الحزب الوطنى تتمحور حول كلمات وعبارات مثل الفقر والأفقر ومحدودى أو معدومى الدخل.. فقد أخرج الانفتاح أسوأ ما فى المصريين وأفسد أخلاقهم وحولهم إلى مجرد حيوانات استهلاكية لا تهتم إلا بما يملأ البطون ويشبع الغرائز.. وتكفل حكم الطوارئ والفساد والاستبداد بالقضاء على البقية الباقية من مقاومة وتماسك وانتماء المصريين.
أما فيما يتعلق بالترويج للفكر السلفى المتخلف الذى يناسب ويتوافق مع النظم الاستبدادية والذى بدأ بتشكيل وتسليح ورعاية فيالق وميليشيات الجماعات الإسلامية وإطلاقها فى الجامعات والشوارع، فقد كان هدف السادات هو ضرب التيارات الوطنية وخاصة الناصرية واليسارية التى أبدت ممانعة ومعارضة لنهجه السياسى المتحالف مع أمريكا والمتصالح مع إسرائيل وبرنامجه الاقتصادى المنحاز للأغنياء و"القطط السمان" الذين بدأوا يطفون على سطح المجتمع ويبثون قيمهم وأخلاقهم النفعية فى أوصاله.. تم إطلاق مارد الجماعات الإسلامية فى الجامعات خلال سبعينيات القرن الماضى، وترك لها الحبل على الغارب لتقوى ويشتد عودها تحت رعاية الدولة وأجهزتها حتى شبت عن الطوق وخرجت عن الطوع وقتلت رأس النظام ذاته!!.. ولكن خطرها لم يتوقف عند هذا الحد بل استفادت من أفكار دعاة كبار عائدين من بلاد النفط ومحملين بأموال "موجهة" لنشر الفكر الوهابى الذى يكفر إخوتنا فى الوطن ويحرض على كراهيتهم ومقاطعتهم بل ويحرم مبادرتهم بالتحية والسلام ناهيك عن مخالطتهم ومشاركتهم الطعام، فذلك إثم عظيم!!.. ومع انتشار التطرف والجهر بالعداء للمسيحيين وتحقير معتقداتهم بين الأغلبية المسلمة كان من الطبيعى أن تنمو بذور التطرف على الجانب الآخر، وإن كنت لا أزال مؤمنا بأنه إذا كان لتطرف الأقلية ما يبرره، فلا يوجد على الإطلاق ما يبرر تطرف الأغلبية.. ومع غياب المشروع القومى الذى يلتف حوله المصريون جميعا وتجاهل الدولة لمطالب وأحلام الشباب وتدهور الاقتصاد والتعليم لجأ المسيحى للكنيسة، ولاذ المسلم بالمؤسسات الإسلامية لينقسم المجتمع مفسحا الطريق بل وممهدا تربة صالحة لمعاول الهدم والتخريب الخارجية التى تحدث عنها المدير السابق لجهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية.. وأعتقد أن التحليل العميق لأسباب المجزرة التى ارتكبت على باب كنيسة القديسين بالإسكندرية فجر العام الميلادى الجديد لا بد وأن يعتبرها واحدة من الثمار الكارثية للمشروع الساداتى سواء كان المجرم عميلا محليا أو خارجيا للقاعدة (خلاصة الفكر السلفى المتخلف) أو للمخابرات الإسرائيلية (التى فتحنا لها أبواب مصر بلا حساب).. ومع التسليم بأن هناك فشلا أمنيا واضحا وفاضحا، ووضع مئات الخطوط تحت الدور الصهيونى فى فصل الكنيسة الأثيوبية عن الكنيسة المصرية بما يعنيه ذلك من خطر على مياه النيل (85% من موارد النهر تأتى من الهضبة الأثيوبية)، فإننى لا أعتقد أننى أذهب بعيدا عن الحقيقة، إذا قلت إن الذى قُتل على أبواب كنيسة الإسكندرية هو المشروع الساداتى بكل أسسه ومضامينه وأبعاده، وعلى ورثة هذا المشروع الذى لا يزال يحكمنا حتى الآن التحلى بالشجاعة والاعتراف بالحق وإعلان فشله ثم دفنه، لكى يبدأ على قبره مشروع وطنى جديد يعيد لمصر استقلال قرارها والمكانة التى تليق بها، وينقذ ما يمكن إنقاذه من أسس وأعمدة الأمن القومى المصرى والعربى.. وحتى لا يكون التاسع من يناير الجارى بداية النهاية لكل القيم والعبر التى مثلتها ، ولا تزال، ملحمة بناء السد العالى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة