
منتصر الزيات
نقلا عن العدد الأسبوعى..
اعتدت أن غلق هواتفى مساء الخميس حتى صباح السبت، وأقضى إجازتى بين أولادى وزوجتى. هكذا سارت عطلتى الأسبوعية الماضية, فلم أكد أفتح تلك الهواتف حتى انسابت الاتصالات تفاجئنى بالحادث الغادر الإجرامى الذى حصد عدداً من الأبرياء المصريين المسيحيين والمسلمين.
هو حادث غادر لا غرو فى ذلك ولا مجادلة، ويتعين علينا جميعا كمصريين أن نشجب ونستنكر وندين هذا الحادث باسم الإسلام. ففى الحديث الشريف (لكل غادر لواء يوم القيامة)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم (من أذى معاهدا لم يُرح رائحة الجنة). لا يحتمل هذا الموقف أى تبريرات أو استحضار أزمات قريبة أو بعيدة، فالحادث جلل، والمصاب أليم وفادح لم تتضح ملامح الجناة بعد بينما أخط سطور هذا المقال ليلة الأحد. يتحدث كثيرون عن علاقة تنظيم القاعدة بعد التهديد الذى نقله فرع التنظيم فى بلاد الرافدين منذ شهرين تقريباً للكنائس المصرية، واتجه آخرون باتهام صريح للجماعات الدينية المتطرفة، بينما لم يستبعد كثير من المراقبين تورط «جهات وأصابع أجنبية» فى ارتكاب الحادث الأليم!
لا أعتقد أن تنظيم القاعدة لديه القدرة على اختراق الأمن المصرى، والتسليم بضلوع «القاعدة» يعنى بالضرورة توفر دعم لوجستى داخلى يقوم على التنفيذ خصوصاً مع ما توفّر من معلومات ضئيلة عن أن مكونات العبوة المستخدمة فى الحادث محلية الصنع بطريقة بدائية! وهو أمر محل شك كبير، فأى اختلاف مع أجهزة الأمن فى ملفات كثيرة لا يمنعنا من الاعتراف بكفاءته فى هذا الملف تحديداً، وعلى مدى خمس سنوات مضت على الأقل عملنا وتابعنا «قضايا» كثيرة ضبطت أجهزة الأمن شبابا من «كافيهات نت» يدخلون مواقع أصولية، أو يدخلون فى محادثات مع أشخاص فى الخارج! فإلمام ومتابعة أجهزة الأمن بكل الشخصيات التى تتواصل مع تنظيمات خارجية فائقة النجاح إلى حد كبير، ومن ثم نتشكك فى قدرة القاعدة على دفع أى من عناصرها إلى داخل مصر من الخارج، ونتشكك أيضاً فى قدرة أفراد بالداخل على التواصل مع عناصر مرتبطة بالقاعدة وتقديم العون لهم، أو تلقى تكليفات تنظيمية فى هذا الإطار الذى يسمح بتنفيذ عمليات بهذا الحجم.
أمر آخر وثيق الصلة باحتمالات تورط القاعدة، أو بالأحرى نفى هذا الاحتمال، ما حققته المراجعات الفكرية والفقهية التى قامت بها الجماعة الإسلامية، وتبعتها فى ذلك فصائل الجهاد، من تفكيك بنية منظومة «فقه العنف» على الأقل، فيما يمكن أن يعد عنفا موجها إلى الداخل، وهو الذى يستهدف أهدافاً مصرية أو عربية مسلمة، بشكل يصعّب من بقاء فكرة استخدام العنف المنظم ضد مدنيين مصريين، سواء كانوا رموزا أمنيين أو مسؤولين أو كانوا غير مسلمين.
لا يؤثر فى سلامة هذا التناول ما يسوقه البعض من حوادث وقعت فى سيناء منذ عدة سنوات أو فى الأزهر، ليدلل على نفاذ القاعدة من جدار الأمن المصرى، فظروف وملابسات حوادث سيناء باتت معروفة، واختراق أفراد من الجبهة الشرقية فى الأراضى المحتلة وتعلق الأمر بالعنف ضد الخارج بسبب ما يجرى فى الأراضى المحتلة وغزة تحديداً من عدوان صهيونى وممارسات الاحتلال الأمريكى فى العراق وغير ذلك- يؤجج مشاعر الكراهية، ويتيح فرصة للعنف أن يجد منفذاً له ضد ما يمكن تصنيفه بالعدو الخارجى والاحتجاجات القومية الكبرى، لكن العنف ضد أهداف محلية بسبب الاعتقاد الدينى بات مرجوحا.
يبقى سؤال مهم: ما علاقة «القاعدة فى بلاد الرافدين» بالكنائس المصرية؟.. المفترض أن هذا التنظيم يقاوم الاحتلال، ما شأنه بالكنائس فى مصر وتفجيرها؟ لكن جبهة العراق باتت مفتوحة لكل من هب ودب، فيها مجاهدون وفيها أيضاً جواسيس، فيها صهاينة وفيها يهود، الأمر الذى يجعل أى بيانات تصدر من داخلها محل شك وريبة.
أجد نفسى أميل لتغليب خيار «نظرية المؤامرة» ووجود أصابع أجنبية لها مصلحة فى إحداث الفتنة الطائفية لتقسّم بلادنا وتضربها فى مقتل، وأعزز هواجسى بأدلة منها ما عتمت عليه السلطات المصرية فى حينه، ولو أعلنت لعلم المصريون أن هناك من يتربص بهم الدوائر، ففى غضون عام 91 لاحظ الأهالى بمنطقة الزيتون محاولة أحد «الأشخاص» فى العقد الثالث من عمره وضع عبوة ناسفة بجوار كنيسة العذراء فاقتادوه لأجهزة الأمن، وتبين أن الشاب تم تجنيده من جهاز مخابرات أجنبى للدسيسة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، وحاكمته محكمة أمن الدولة برئاسة المستشار محمد سعيد العشماوى، وقضت بمعاقبته بالسجن عشر سنوات.
إن الكيان الصهيونى لن يفتر حماسه فى إحداث الوقيعة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر وتخريب الوحدة الوطنية.
شىء من التدقيق فى خلفية العثور على عبوتين مفخختين أسفل سيارتين قبالة كنيسة الزيتون ماركة 128, الأولى رمادية اللون تحمل لوحة رقم 88354 انفجرت عبوتها فى الثامنة والنصف مساء انفجاراً لا يحقق نتيجة حقيقية، ثم توصلت أجهزة الأمن للسيارة الثانية، حمراء تحمل لوحة رقم 21267 ملاكى الجيزة، واستطاعت نزع فتيلها أو تفجيرها فى أمان، كان ذلك ليلة وصول نتنياهو للقاهرة! كان الأمر يبدو رسالة ذات مغزى بأن الوحدة الوطنية فى مرمى النيران.
لا أستطيع أن أخفى ملاحظاتى حول تشابه بين ما جرى البارحة فى الإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية، وبين ما جرى فى نجع حمادى العام الماضى فى ذات التوقيت، وقد كشفت مذكرة التحريات فى تلك القضية اتفاق الجناة على ارتكاب الحادث ليلة رأس السنة، والحادثان خُطط لهما أن يتما أثناء خروج المسيحيين من القداس!
تبقى فرضية تورط أحد الشباب «المهووس» الذى يحمل فكراً جهادياً مشوشا لا يرتبط بتنظيم ولا قيادة، ومن ثم لم يندرج فى كشوف الأمن, أميره الحاسوب الآلى، عصفت بعواطفه التوترات الطائفية فى الفترة الأخيرة وتظاهرات تطالب بإعلان حقيقة إسلام كاميليا شحاته ومن قبلها وفاء قسطنطين وكلام كثير عن قضايا جنسية وعلاقات عاطفية بين شباب وشابات مسلمين ومسيحيين ينقسم معها الوطن، ظن أنه ذاهب إلى الجنة بهذه العملية.
هؤلاء الإخوة الذين يسارعون إلى تنفيذ عمليات تحت ستار فتاوى منكرة غير واضحة تبرر استحلال أموال أو دماء غير المسلمين، هم بالضرورة لا يملكون القدرة على فهم واستنباط الأحكام الشرعية, ولا يحفظون حتى هذه الأدلة التى تساق لهم سوقاً، ويكرهون الإنصات إلى حديث الأخلاق والبر والوفاء بالوعود والعهود وعدم الغدر.
كلام كثير يمكن أن نقوله فى العلاقة المأزومة بين المسلمين والمسيحيين، أو المشكلات المثارة فى المسكوت عنه فيها، لكن الأمر لا يحتمل الآن إلا أن تكون رسالتنا واضحة.. سنتمسك بوحدتنا ضد الإرهاب.