سليمان شفيق يكتب: شهادة من قلب كنيسة القديسين على جريمة رأس السنة.. البكاء بين يدى العذراء فى كنيسة القديسين
الأربعاء، 05 يناير 2011 12:03 صمشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سليمان شفيق
نقلا عن العدد الأسبوعى..
تحول رنين الهاتف إلى عويل.. عام 2011 يطل برأسه، حينما أتانى صوت أحد الأصدقاء: كنيسة القديسين تحترق.
خلال ربع ساعة وصل التاكسى إلى تقاطع شارع العيسوى مع شارع خليل حمادة، الأمن يمنع الدخول إلى خليل حمادة، بطاقتى الصحفية جعلت الضابط يسمح لنا بالدخول، عرض الشارع لا يزيد على خمسة أمتار، على اليسار وفى منتصف خليل حمادة تقع كنيسة القديسين وعلى اليمين فى المقابل مسجد سيدى بشر، يتكئ المسجد على مستشفى شرق المدينة وتستند الكنيسة على كنيسة مار مرقص.
أصوات مبحوحة وأخرى باكية، حشرجات وأنين، امرأة تنتحب «آه يا ابنى» لهجتها الصعيدية ذكرتنى بنحيب نساء قريتى، تكمل المرأة: «ملحقتش تفرح يا ابنى». شباب من عصر الاحتقان وزمن الفتنة يهتفون: «بالروح، بالدم، نفديك يا صليب» يقطع هتافات الشباب أصوات الأحجار من على الجانبين، ما تبقى من ضوء القمر يتسلل منعكساً على الدماء الساخنة التى رفضت الأرض أن تشربها، اشتد صراخ الشباب وتضارب الأحجار، تقهقرت للخلف، جلست على جزء من سور مستشفى شرق المدينة، لاحظت جسما يتحرك على الأرض، دققت النظر، يد أحد الضحايا منفصلة عن جسدها، تتلوى باحثة عن الجسد أو اليد الأخرى، اعتصر الألم قلبى، تماهيت مع تلك اليد الوحيدة الباحثة عن الحياة من رحم الموت، شعرت أن تلك اليد الوحيدة تشبه الأقباط وهم يبحثون عن اليد الأخرى للجماعة الوطنية فى جسد الوطن المتناثر أشلاء ما بين مسجد سيدى بشر وكنيسة القديسين.. ارتفعت هتافات الشباب الغاضب: «بالروح.. بالدم.. نفديك يا صليب» عدت بذاكرتى للخلف.. لعام 1975 حينما كنت فى سن هؤلاء الغاضبين، كنا فى الجامعة نرفض مؤتمر جنيف للسلام، كان هتافنا حين ذاك «دم إخواتنا فى بارليف مايروحش هدر فى جينيف» لم تكن دماء بطرس ومحمد تهدر فى شارع خليل حمادة بل كانت من أجل تحرير سيناء والوطن وخط بارليف، ارتعش جسدى وأنا أشاهد اليد تتلوى، أسرعت اليها، احتضنتها تشبثت اليد بالملابس، جذبتها وأعطيتها لرجال الإسعاف لكى تنضم إلى أشلاء أخرى بلا أجساد مكتملة، أسرعت إلى السيدة الباكية، ربت على كتفها قائلاً: ربنا يصبرك.. ابنك شهيد، التفتت المرأة وسألتنى: ابنى شهيد من؟
الوطن فى خطر
من الواحدة صباحاً حتى الرابعة صباحاً لا يوجد سوى رجال الأمن والفرق الطبية، والشباب المصدوم والنساء الثكالى، ولافتات تأييد لمفيد شهاب وعبدالسلام المحجوب، وعرفت من أحد أعضاء المجلس المحلى العام بالإسكندرية أن الأمن سوف يخلى الشارع حتى يتمكن رجال البحث الجنائى من التقاط الأدلة، تصادم الشباب مع الأمن مرة أخرى، وألقى عليهم القنابل المسيلة للدموع، دخلت مع ما تبقى من صحفيين إلى داخل الكنيسة، بهو كبير تتوسطه صورة كبيرة للعذراء تحت صدر المسيح كأنها تخشى عليه من السيارات المفخخة والقنابل المسيلة للدموع وغضب المتظاهرين!!! اقتربت من أحد الكهنة متسائلاً عما حدث، أجاب: بعد الانتهاء من القداس وأثناء خروج المصلين حدث انفجار عنيف هز أرجاء المكان، حوالى الساعة الثانية عشرة والثلث بعد منتصف الليل، شارك أحد الشباب فى الحوار مؤكداً أن ثلاثة شباب نزلوا من سيارة سكودا وتركوها لتنفجر بعد دقائق، رد آخر ليست سكودا بل جولف، ولكنهما اتفقا على أنها خضراء اللون، يشارك ثالث فى الحديث مؤكدا أنهما سيارتان سكودا وجولف!! فى الثالثة فجرا وصل الأنبا باخوميدس أسقف البحيرة وقام بجهود مضنية لكى يقنع الشباب بالدخول إلى الكنيسة أو الانصراف.. لا أحد من أعضاء الحزب الوطنى صاحب الـ95 % من أصوات الناخبين، ولا من أعضاء الأحزاب المعارضة صاحبة الـ5 %، ولا من جماعات الرفض، ولا من الجمعية المصرية للتغيير، ولا من شباب 6 أبريل، ولا أى جماعات شرعية أو محظورة، هنا أدركت أن الوطن فى خطر.
الانفصال عن الأرض والتوجه للسماء
لم يكن أمام الشباب من عزاء على الأرض! اتجهت أنظارهم نحو السماء، تبدلت الهتافات إلى صلوات، سادت اللغة القبطية «كيريالسيون.. كيريالسيون».. أى يا رب ارحم بالعربية، لم تعد أنظارهم موجهة نحو الأمن بل نحو السماء، صلواتهم باللغة القبطية تتقاطع مع خيوط الفجر، شعرت بالعجز والاغتراب اللذين يعانون منهما.. تعالت صلواتهم مع وصول الأنبا يؤانس والأنبا كيرلس، حتى العاشرة صباحاً كان الحديث عن 22 شهيداً منهم عشرة مجرد أشلاء وتجاوز عدد الجرحى الثمانين جريحاً.
وطن انفصلت ذراعه عن جسده
فى أحد ممرات مستشفى مار مرقص التابع لكنيسة الذى لا يفصله عنه سوى ممر صغير، تجمع بعض العاملين حول جهاز تليفزيون، عشرات المداخلات الثرثارة من كبار وصغار المسؤولين، ومحترفى الحديث للفضائيات، وكلها تثبت أن مصر حكومة ومعارضة بلا عقل، ووزارة الداخلية تصدر بيانا انطباعيا تستخدم فيه كلمة (ترجح) بدون معلومات، وقبل انتهاء التحقيقات أو حتى جمع الأدلة، كالعادة الرئيس مبارك يطمئن الجميع ويقدم خطابا يتعهد فيه بملاحقة القتلة، يتنهد أحد العاملين قائلا: شكراً يا ريس لكن لماذا لا تحاسب المقصرين؟
فى منتصف النهار وبعد مرور 12 ساعة على الكارثة، وصل أمين الحزب الوطنى بالإسكندرية، وهطلت سيول من بيانات أحزاب المعارضة، عدت للكنيسة مرة أخرى، الشباب يتوجهون للسماء تارة بالبكاء وأخرى بالدعاء، اختلطت الشائعات بالحقائق بأشلاء الضحايا، همدت المرأة الباكية، شعرت بالخوف والعجز، كيف يترك السياسيون الوطن عارى الصدر والقدمين مثل تلك المرأة أمام وحش الإرهاب؟! لماذا لا تفلح أجهزة الدولة المختلفة إلا فى تزوير الانتخابات؟! أين دعاة العصيان المدنى والثورة؟! اقشعر بدنى حينما شعرت بأن (يد) الشهيد تقبض على قلبى، تركت الأرض واتجهت إلى السماء، أخفيت وجهى فى صدر العذراء وانخرطت فى البكاء، لست أدرى لماذا؟ هل بكائى خوف وعجز، أم أبكى الضحايا؟ أم أبكى دولة فقدناها فى الانفجار واختلطت أشلاؤها بأشلاء الضحايا؟ أم أبكى معارضة لا وجود لها إلا فى الفضائيات؟ ربما بكيت كل هؤلاء ولكنى بالتأكيد كنت أبكى نفسى ووطنى وجيلى وبطاقة حزبى ولكن سؤال المرأة: ابنى شهيد من؟ لم أجد له إجابة.. وعندما شعرت أن الذراع هى إحدى أذرع الوطن المقتول بحثا عن جسده ازداد عويلى ودفنت رأسى فى أحضان العذراء وأكملت البكاء متمنيا ألا أعود مرة أخرى إلى الواقع الدرامى.
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة