لم أذهب مرة فى حياتى إلى مظاهرة إلا كمراقبة لما يحدث فيها، فهويتى البحثية تتبعنى حتى فى أدق تفاصيل حياتى، فاستحضر دوما رؤيتى للحدث، ومدى فاعليته، وكيف يمكن الحكم عليه، وإلى أى مدى يمكن أن يثمر عن نتائج..
ولم أكن قد شاركت بصورة كلية فى مظاهرات 25 يناير ، بصورة شاملة، لظروف تعلقت بصحة والدتى، ولكن أحسبنى بقيت متابعة كلية للأحداث، بيد أنه كان ينقصنى الرؤية الكلية من مكان الحدث، لوضع السيناريوهات المحتملة لهذا الحدث، وهنا بقيت فى ترقب لليوم التالى، حتى رأيت صديقتى المبدعة الجميلة، والروائية الشابة، رباب كساب، تكتب على صفحتها على الفيسبوك، أنها بالقاهرة، وفى ميدان التحرير، حيث لا يوجد متظاهرون، التقطت الخيط، واتصلت بها لكى نحدد موعد للقاء، وربما لا أعلم لماذا ساقنى القدر إلى ذلك المكان فى هذا اليوم، فهذه المرة الأولى فى حياتى التى أعرف فيها مقهى البستان ومقاهى البورصة بوسط البلد، حيث حللت ضيفة على هذه الأماكن مع الصديقة الجميلة رباب.
التقينا فى بداية الأمر فى مقهى الأوبرا، ولصعوبة المرور نتيجة تكدس قوات الأمن قررنا السير حتى ميدان التحرير، حيث قررنا أننا سوف نتناول الغداء هناك، ونتبادل أطراف الحديث حول الأوضاع العامة والخاصة فى حياة كل منا، ولن يفوتنا الحديث بطبيعة الحال عن الأوضاع فى مصر، مرورا بالحالة الثقافية والإبداعية وانتهاءً بالحالة السياسية والاجتماعية، وفى الطريق إلى ميدان التحرير، كانت المشاهد غاية فى الدلالات التى لا يمكن للمرء أن يتخيل معها أنه يمشى فى أهم شارع من شوارع مدينة القاهرة، كتل أمنية ضخمة، تشعر معها بالرهبة الشديدة، ومنع تام لدخول السيارات القادمة من الدقى إلى ميدان التحرير، وإغلاقه مع هذا الاتجاه، حمدنا الله أننا لم نأخذ تاكسيا، وفى الطريق لم يفوتنا منظر ذلك الشرطى الذى يعاكس أجنبية، ضحكت رباب، فقلت لها لو أن ظروفه تسمح بالزواج لاستعفف بدلاً من أن يثقل على الأجانب، ويعطى صورة سيئة عن مصر وشعبها، فقالت معك حق.
أخذتنا أقدامنا وسط هذه التعزيزات الأمنية الضخمة، إلى أول ميدان التحرير مع الشوارع المتقاطعة معه من ناحية الجامعة الأمريكية ومرورا بطلعت حرب، وهناك وجدنا تجمعاً كبيراً، فاعتقدنا أنها مظاهرة، اقتربنا من مكان الحدث، وبدأنا نسأل عن سبب هذا التجمع، والكل يجب لا أعرف .. لا أعرف، وفجأة نظرنا إلى أعلى إحدى البنايات حيث شاهدنا شابا يعتلى جهاز التكييف الخارجى للطابق الثالث فى تلك البناية، ويهدد بالانتحار، من أجل أن تتحقق مطالب الشعب المصرى، وقفنا أنا ورباب مشدوهين من هول المنظر، ومع توسلات الناس للشاب، بدأ يُعرض عن الفكرة، ونزل فعليا من الطابق الثالث إلى الأرض، لم ننتظر حتى نرى كيف تصرفت معه قوات الأمن التى كانت محيطة به، حيث أصابنا الإحباط، من هول ما رأينا، وأخذتنا أقدامنا إلى شارع طلعت حرب، حيث كنا قد قررنا أن نتناول الغداء فى أحد المطاعم هناك، حتى تكون رباب قريبة من موقف السيارات التى ستقلها إلى بلدتها، استقر بنا الأمر إلى مطعم بوسط البلد، وهذا أيضا تعرفت عليه فى يوم عيد ميلادى لهذا العام، فقد ذهبت إليه مع أخى مدعوة من جمع من الأصدقاء، تناولت أنا ورباب الغداء، وقررنا أن نأخذ الشاى فى أحد مقاهى وسط البلد، وبدأت رباب تشرح لى كيف أن هذه المقاهى هى ملتقى الأدباء والشعراء فى مصر، وبين حديث رباب وحديث نفسى، كنت أرى صوتا يحدثنى بصوت ضمير مصر الذى رأى هذا الشاب، ولا يريده أن يموت أو أن يصيبه أذى، فهو الضياء لعين هذا الوطن، وصوت عبيرها، وأمل غدها الذى ينتظره الجميع.
وما بين حديث رباب وحديث نفسى، سمعنا أصواتاً غريبة، ويبدو أن المقاهى قررت أن تغلق أبوابها فجأة، فسألنا عن السبب فقالوا إن المظاهرات وصلت إلى هنا، سمعنا صوت الهتافات، مصر مصر.. تحيا مصر، قررنا أن نرى ماذا يحدث هناك، ذهبنا فرأينا تدافعات أمنية كثيفة، واستعدادات كبيرة، وعساكر أمن مركزى يهرولون مسرعين، ويحملون فى أيديهم عصى غليظة، تساءلت فى نفسى: ما كل هذا، هل هى الحرب؟ وما هى إلا لحظات حتى سمعت رجل أمن يقول للعساكر اضربوا بكل قوتكم، كنت أتمنى أن تأخذنى الجرأة لأقول له، هؤلاء أهلك، أبناؤك وبناتك ... بل هؤلاء كبد مصر وضميرها الحر، ولا يجوز أن تتعامل معهم بهذه القسوة، لم يكن هناك متسع للكلام حيث وجدنا المظاهرة ورجال الأمن يحيطوننا من كل جانب، شباب وفتيات فى عمر الزهور، فى مقتبل العشرينيات، يحملون أحلام البسطاء، هؤلاء هم صوت مصر، التى خرجت عن صمتها فى يوم 25 يناير من عامنا الجديد، لا يبحثون عن منصب، ولا مركز اجتماعى، ولا يزايدون من أجل التملق عبرالفضائيات، ولا ينتمون إلى أحزاب سياسية، ولا جماعات إسلامية، إنهم شباب فى عمر الزهور، يبحثون عن الحياة، ويريدون مصر الأمل، ويرددون شعارات الحياة الكريمة، لا يتحدثون عن الرئيس ولا عن الحكومة، يرددون فقط، مصر مصر تحيا مصر.
هنا تحضر مصر بجلالها، متعالية على كل الأحزاب، والأيدلوجيات، والمتسيسين والمراهنين والمتكسبين من دم الفقراء والضعفاء، من أبناء هذا الشعب، لم أر مثل هذا المشهد طيلة حياتى، إنهم شباب مصر، وصوتها، خرجوا ليطالبوا بحياة كريمة، فقط يريدون أن يعيشوا حياة تليق بتاريخ مصر، وحضارتها، وعطائها الإنسانى، فما هى إلا لحظات ورأينا هؤلاء الشباب والفتيات الذين لا تزيد أعمارهم عن العشرين عاما، يقعون تحت أقدام رجال الأمن المدججين بالسلاح، يضربونهم بكل وحشية وإجرام، لقد كنت أنا وصديقتى شهود عيان على هذه الجريمة، التى لن تغفرها مصر، لهؤلاء الذين قاموا بسحل الشباب والفتيات فى الشارع، ثم نقلوهم فى سيارة ميكروباص، شاهدنا كل ذلك بأم أعيننا، ونحن نبكى بقلوبنا، والجميع يهرول، أمام عصى الأمن ورجاله، لم يكن أمامنا إلا الانسحاب استجابة لتهديدات رجال الشرطة.
المشهد كان موجعاً أشد الوجع، ومؤلماً غاية الألم، كان يمكن أن يفرغ هؤلاء الشباب طاقتهم فى حراسة أمنية ثم ينسحبون ويعودون، سالمين إلى حيث جاءوا، لماذا لا نتعلم من أخطاء الآخرين، كنت أشعر مع كل لطمة يقوم بها رجل الأمن على وجه هاتين الفتاتين، أنه يهيننى بل يهين مصر جميعها، تمنيت أن ألطمه على وجهه أو أن أصرخ فيه، بل تمنيت أن أكون امرأة خارقة مثل تلك التى نشاهدها فى الأفلام الأمريكية، فأطير فى السماء وأنزل عليه ضربا مبرحاً من كل الاتجاهات، لكن هيهات كل ذلك لم يحدث، بل حدث العكس أن انسحبت أنا وصديقتى التى تسمرت أقدامها، وصارت تصرخ، وما بين انهيارها، وذهولى، بكت قلوبنا، وعدنا إلى منازلنا، وبقيت صورة هاتين الفتاتين والشباب، التى لن تمحى من ذاكرتنا ما حيينا أبدا، تركوا بيوتهم وأمهاتهم وأباءهم وجاءوا ليصنعون الأمل، عبر هتافاتهم الإنسانية البعيدة أتم البعد عن أى أطر سياسية، ولا شىء غير الأمل فى حياة كريمة، تملؤها العزة والكرامة، وما زلت أفكر فى هاتين الفتاتين ما هو مصيرهما الآن.
وما إن أوشكت أن أنهى كتابة هذا المقال، حتى علمت باعتقال أحد تلامذتى بكلية الإعلام، الطالب محمد جمال، حيث يعمل صحفياً فى المصرى اليوم، وكان متواجدا فى مظاهرة أول أمس 25 يناير، ليغطى الأحداث للصحيفة التى يعمل بها، ولم يحمه الكارنيه الصحفى الذى يحمله هذا الصحفى الصغير، وحلم مصر الكبير، لم يحمه من بطش قوات الأمن، فعلمت الآن من صديق له أنه تم اعتقاله مع عدد كبير من الشباب والفتيات، فماذا أكتب عن هؤلاء؟ وكيف أكتب عن صرخة أمهاتهم وآبائهم ؟ لقد سقطت الكثير من الأقنعة أمام هذه الأحلام المعلقة والصرخات المستغيثة بالحق فى الحياة كريمة، ونسيت أمام هذه المشاهد مهمتى البحثية فى كيفية تحليل الظواهر الاجتماعية، ووضعها فى نصابها الصحيح، ونسيت أيضا تحليل مؤشرات تعامل رجال الأمن مع هؤلاء الشباب، ودلالات ذلك، ولم يكن يحضرنى سوى تساؤل بديهى: متى سوف تتعامل قوات الأمن مع الشعب بمسئولية؟ بل متى يشعرون بمسئولية تجاه أوطانهم؟ وإلى أى مدى يمكن أن يشعر رجل الأمن أن هؤلاء الشباب هم الأمن الحقيقى لمصر؟! وثروتها المستقبلية؟!
المشهد الآنى فى مصر أصبح غاية فى الحساسية وإن لم نتعامل معه برؤية سياسية ناضجة، ستؤول الأمور إلى مالا يحمد عقباه، فانقذوا مصر مما هى مقبلة عليه، قبل أن تفلت الأمور إلى حيث ما لا نريد، حافظوا على شباب مصر فهم صوت مصر وأملها، أرجوكم لا تقتلوا مصر، فكم هى بحاجة إلى أبنائها وبناتها... لك الله يا مصر.
* محاضرة بالجامعة الأمريكية