حينما تجمع ما يزيد على ألفين من العلماء والوعاظ وأئمة المساجد والمواطنين، فى محاضرة الدكتور على جمعة مفتى الجمهورية التى ألقاها بالخرطوم الأسبوع الماضى، كانوا يعرفون قدر الرجل وقيمته العلمية، خاصة أنه يمثل الأزهر بما تحمله الكلمة من معان للمسلمين فى أنحاء العالم وخاصة هؤلاء الذين يعيشون فى بلاد بها ديانات أخرى غير الإسلام، الذين أصبحوا فى عصرنا هذا يحنون لأى قادم من بلد الأزهر الذى كان منارة للتعليم الدينى وارتبط أيضا بالدور المصرى السابق لكثير من حركات التحرر فى القارة السمراء، إلا أن هذا الدور تراجع وأخذ معه فى الانحدار عددا لا بأس به من الأدوار الفرعية للدولة المصرية، سواء دور الأزهر، أو الكنيسة أو حتى المؤسسة الثقافية.
وجاءت زيارة المفتى للسودان مؤخرا بعد أن انتبه الرجل إلى أن عامل الدين قد يكون حلا ناعما ونظيفا وآمنا أيضا للأزمات التى بدأت تطفو على السطح بين دول حوض النيل وزادتها حدة عملية التقسيم الموجعة للسودان، والتى بلاشك ستؤثر على حصة مصر فى المياه، حتى وإن قال المسؤولون غير ذلك.
ورأى جمعة أن الأمر ليس خلطا للدين بالسياسية، بقدر ما هو استخدام أمثل للدين خاصة الإسلام الذى يحمل له الأفارقة مودة خاصة بعد أن انتشر فى بلدانهم بسلاسة وسرعة كانتا كفيلتين بزيادة أعداد المنتسبين إليه يوميا رغم النشاط التبشيرى المكثف لبعض المنظمات الغربية، وكان الدين آخر ما يفكر فيه السياسيون فى محاولاتهم اليائسة لوقف قطار التمرد الإفريقى على نصيب دول المصب من مياه النهر، إلى أن قرر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إطلاق المنح الدراسية لمسلمى أثيوبيا ودول حوض النيل دون تحديد، بحيث تقبل جامعة الأزهر كل من يرغب فى الدراسة بها وتتوافر فيه الشروط دون تحديد للعدد، وهى خطوة فتحت مسارا آخر للضغط على تلك الدول، وأعطت للمفاوضات دافعا أكثر منطقية من أكاذيب السياسيين ووعودهم المتأخرة، بل وزاد شيخ الأزهر على هذه المنح بأنه أبدى رغبته فى زيارة كل دول حوض النيل بدءا من أثيوبيا باعتبارها أول دولة فى العالم استقبلت المهاجرين المسلمين الأوائل واحتضنتهم، حسب قوله، فيما قرر وزير الأوقاف مضاعفة أعداد الدعاة المبتعثين إلى دول أفريقيا بعدما كانت تلك الدول تمثل عقابا لبعضهم إلا أن زيادة المخصصات أنهت تلك الصورة.
الجولة الناجحة لعلى جمعة فى السودان كانت كاشفة لكثير من الخطايا القديمة نحو إفريقيا، حين أهمل العقل المصرى أهمية ثقله الدينى والثقافى فى الجنوب، ووصل هذا الإهمال إلى حد إضاعة المكتسبات السابقة بتقليل عدد الدعاة المبعوثين إلى الدول الأفريقية، وتناسى الأقليات المسلمة فى بعض هذه الدول، والتوقف عن استقطاب أعداد أكبر من الطلاب الأفارقة وتقليل المنح المقدمة إليهم، ووصل هذ الإهمال إلى حد تجاهل أهمية أفريقيا وجغرافيتها فى المناهج الدراسية، وتجاهل إظهار أهميتها للدولة المصرية، حتى إن غالبية المصريين لا يعلمون أن الجاليات المسلمة فى تلك البلدان تشكل ورقة ضغط رابحة لو أن الأزهر تدخل بثقله وقاد حملة تعاون مشترك لفتح جسور أخرى من الحوار مع هذه الجاليات حيث تصل نسبة المسلمين فى بعضها إلى %75 من إجمالى عدد السكان كما فى تنزانيا و%24 فى أوغندا وفى كينيا %35 وفى الكونغو %40 وفى رواندا %15 وفى بورندى%6 ، حسب آخر إحصائيات.
على الساسة الآن أن يدركوا أهمية الأزهر ودوره الحيوى فى التأثير على دول حوض النيل، وإنهاء فترة الجفاء بينه وبين الدول الإفريقية، ووضع خطة متكاملة لاستعادة وجوده فى الجنوب، بدلا من البعثات المتناثرة التى لا تخرج عن كونها منحا عشوائية بلا هدف، ودور الأزهر هنا لا يعنى فقط تمدده فى تلك الدول، ولكن أيضا عليه الانتباه لما يزيد على 2000 طالب وافد من أفريقيا يدرسون داخل جامعة الأزهر، يعتبرون سفراء لبلادهم، يجب استغلالهم الاستغلال الأمثل ليكونوا رأس حربة لدور الأزهر فى أفريقيا، بدلا من أن تذهب المنح التى يحصلون عليها هباء بما يشيعه البعض عن سوء المعاملة ونظرة الاستعلاء التى يلقونها فى مصر أثناء دراستهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة