"القاهرة 2003" فصل من رواية "خمارة المعبد"

الخميس، 27 يناير 2011 03:20 م
"القاهرة 2003" فصل من رواية "خمارة المعبد" بهاء عبد المجيد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ننشر فصلاً من راوية "خمارة المعبد" للكاتب الدكتور بهاء عبد المجيد بعنوان "القاهرة 2003":

أخذت المياه تهطل بغزارة، منذ لحظات سمع نقراتها على زجاج النافذة، قام من مكانه ورفع الستائر الزرقاء التى اختارتها والدته عندما جاءوا إلى هذا السكن فى المعادى بعدما تركوا شبرا وفتح النافذة وأخذ ينظر إلى المياه المنهمرة على الشارع الطويل، وتظهر كثافة القطرات على انعكاس أضواء النيون عليها. مرقت سيارة نقل كبيرة هزت أرجاء المنزل وأشعرته بالخوف وقرب النهاية.

المرأة السمراء التى تقطن فى البناية المقابلة كانت تنظر أيضًا، ويحوطها أطفالها الذين لا ينامون أبدًا. ابنتها شروق "حالكة السُّمرة" والتى كانت تلعب دائمًا أكروبات مخيفة فوق حاجز الشرفة، وكل مرة يتوقع أن تسقط على الأرض الصلبة، مرددةً صرخةً طفوليةً حادةً يتردد مداها فى الأفق، ولكن هذا لا يحدث أبدًا. أمها ممشوقة القوام قوية البنية، ربما جاءت من سلالة أفريقية نبيلة ولكن انتهى بها الأمر إلى أن تصبح لاجئة سياسية أو هاربة من مجاعة أو إبادة جماعية.

كان تفكيره فى النهاية هو كل شىء فهو لا يريد أن يستمر. وهذا ليس بإرادته ولكن هناك رغبة مُلِحَّة بداخله فى أن يعذب جسده، سقوط الأمطار أحدث برودة غير عادية فى أوصاله وكأن المياه قد أطفأت حمى جسده، تمامًا مثلما تسقط مياه باردة على لوح حديد ساخن طَرَقَه الحدَّاد منذ برهة.

يراوده شعور بأن يغرس جمرات من النار فى أجزاء مختلفة من جسده، يضعها على فمه ويضغط عليها بأصابعه حتى يشاهد الدخان المتصاعد من تبخُّر سوائل جسده، ويشم رائحة تحوُّل لحمه إلى ثانى أكسيد الكربون، لماذا النيران الآن؟ ولماذا يريد أن يفعل ذلك؟

لم تكن النار هى الهاجس الذى يريد أن ينهى حياته بها فقط، بل أيضًا يريد أن يرى دمه مسكوبًا على الأرض، كان يراوده هذا الشعور كلما دخل إلى الحمام حيث الأرضية البيضاء الناصعة التى تشبه حجرة العمليات، سيحقق هذا الهاجس من خلال شفرة موسى حادة، أو نصلٍ مسنون وسيكون القطع أسفل نهاية الرقبة تمامًا بالقرب من الوريد النابض دائمًا، أو هناك فوق شرايين اليد. وبعد هذه الفعلة الجريئة سيتدفق الدم الحار، وسيتحرر الجسد، وستخرج الروح المعذبة وتذهب بعيدًا جدًّا. وسيرتاح هو، ويرتاح الجميع.

ولكن كيف يجرؤ على هذا الفعل، وهو يخاف كل شيء لقد أصبح قادرًا فقط على تأمل فكرة وضع نهاية متعمدة لحياته، ولكن الفعل هو المؤجل دائمًا. الآن فقط يمكنه أن يقول إنه قد تطور كثيرًا وتغير لدرجة أن تواتيه فكرة أن يضع النهاية؛ ليرحل هذا العذاب وهذا الوهم. لقد أجبروه أن يعيش وأن ينظر إلى وجهه فى المرآة كل صباح أو كل مساء، ويقنع ذاته أنه حى، وأنه ناجح، وأنه شخص عادى مثل كثيرين ممن حوله. هؤلاء أقنعوه بأن المعاناة جزء من الوجود، وأنها لحكمة ما قد ولدت مع الإنسان، وأنها تكريم له لتجعل لحياته معنى، وأنها السبيل إلى تحقيق أحلام عائلته التى وضعته وسط الدائرة وجعلته بؤرة اهتمامها، والحلم الذى سيتحقق ليثبتوا للآخرين أنهم عائلة ناجحة، وأنها أخرجت هذا الفرد إلى الوجود.

يتأمل أحيانًا كيف ستتلقَّى والدته الخبر، وماذا سيكون رد فعلها. ربما ستكون أول من يُفاجأ به مُلقًى على الأرض، غارقًا فى دمه، باردًا تمامًا كمنشفة مبللة، مُلقاة بجوار المغطس الإفرنجى أبيض اللون، والذى اختارته هى أيضًا؛ لأنها تحب النقاء والطُّهر. ستصرخ حتمًا هذه المرأة التى أنهت عقدها الخامس حديثًا، وأنهك عظامها مرضُ السكرى، الذى أصابها بعد أن فقدت أختيها ووالدها فى أقل من عام، وكأن الموت يختبر قدرتها على تحمُّل الوحدة، وكأن القدر يرسل إليها علامة لتستعد لترتيبات الموت.

ستذهل؛ فهو حلم العمر، وهو البناء الذى بنته بعيونها وسهرها وجسدها، وهو توأم وجودها وقصتها الحقيقية، مسطورة فى عقله وعلى صفحات كراسته التى يخفيها وتقرؤها عندما يكون غارقًا فى سُباته، أو فى الخارج مع أصدقائه القلائل، وهذه أجزاء من حياته التى حاول معتز أن يسجلها فى دفتره.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة