يرى البعض أن كرة الثلج تتحرك، وأنها بصدد أن تغرق مصر، فمظاهر الغضب قد زادت واستشرت وأن الخطط تحاك، وأن الأسلحة تسن وفوق كل ذلك فإن جيوش المحتجين تجيش بمئات بل بآلاف المقاتلين الأشاوس المستعدين للقتال فى كل مكان بعد أن انتقلت كرة الثلج التونسية إلى مصر، فإذا بعشرات الشباب يحرقون أنفسهم فى أماكن عدة ولأسباب مختلفة، كل آمل أن يكون بوعزيزى جديدا.
ولا بد أن ندرك أن ذلك الاستعداد ما هو إلا استعداد إلكترونى بحت وقد تم حشد بعض الآلاف من مستخدمى الإنترنت تعدى عددهم حتى اللحظة سبعين ألفا من مستخدمى الإنترنت!!
والحقيقة أن موضوع المظاهرة المزعوم اندلاعها يوم الخامس والعشرين من يناير الجارى، على أمل تحولها لثورة شعب، تثير أمامى الكثير من الأفكار، وتدفعنى للتفكير فى أمور عدة ، فتلك الدعوات الموصولة للغضب والاحتجاج والثورة قدر ما تثير نقاطا إيجابية عدة قدر ما تثير عن نواحى سلبية أخرى مستوطنة فى بر مصر.
فهى تدفعنى للإيمان بذكاء صانعى القرار فى مصر، قدر ما تجعلنى فى نفس الوقت أكثر إيمانا بأن المعارضة المصرية عامة واهنة وغير ذكية.
فالدعوات للتظاهر والغضب والثورة تؤكد أن قطاعا ليس بكبير من الشعب المصرى أصبح أكثر وعيا بحقوقه، وأن هناك من يحاول أن يطالب بحقوقه البسيطة رغم أن الشائع حاليا أن الشعب المصرى لا يكترث بما يحدث حوله.
دعوات للتظاهر والغضب والثورة عبر مواطنين عاديين عبر شبكات التواصل الاجتماعى وعلى رأسها الفيس بوك تدق المسمار الأخير فى نعش المعارضة المصرية بمختلف توجهاتها الفكرية وتعكس أن تلك الأحزاب نائمة فى سبات عميق، وإنها فاشلة حتى الثمالة فى القيام بأى دور على الساحة السياسية، وذلك مع كامل المراعاة للتقييد الأمنى عليها.
والأكثر إثارة أن تلك الدعوات المتعددة فى السنوات القليلة الماضية– لعل بدياتها الحقيقية كانت مع تظاهرة 6 أبريل 2008– فشلت فى اجتذاب الإخوان المسلمين المحسوبين على المعارضة وهو ما يفرض أسئلة عديدة حول الدور الذى تقوم به الجماعة فى الحياة السياسية المصرية، بل ويؤكد الحديث أن الجماعة لا تتحرك الا فى نطاق مصلحتها الشخصية فقط وهو نطاق نفعى ضيق "كمظاهرات الجماعة ضد طرد أبنائها من المدن الجماعية أو شطب كوادرها من الانتخابات الطلابية"، فالجماعة القادرة على حشد عدد كبير جدا من المواطنين، وفقا لتصريحات قادتها أنفسهم، ترفض مرارا المشاركة فى أى عمل جماعى احتجاجى كبير، وكأنها تعد لشىء كبير تحت الأرض.
تلك الدعوات للتظاهر والثورة، تفرض علينا أيضا احترام التعامل الحكومى الذكى مع الغضب الشعبى فى مصر، فالحكومة المصرية لجأت إلى السماح بأشكال متعددة من التنفيس لعل أهمها السماح بالحريات على الإنترنت، وأهمها على الإطلاق حرية التعبير وحرية التظاهر، والآن حرية الثورة، وهى كلها حريات افتراضية بحتة تجد عشرات الآلاف من المؤيدين والناشطين السياسيين الذين يمضون عديد الدقائق فى التحضير للاحتجاج ويخرجون موجات الغضب والكبت السياسى المتراكمة بداخلهم عبر مشاركاتهم فى "مناقشات" المجموعات المختلفة للاحتجاج على الإنترنت.
كما سمحت بسلسلة طويلة جدا من الاعتصامات والإضرابات فى السنين الأخيرة لكيلا يتوطن الغضب فى نفوس المصريين ولتتشدق هى أمام المجتمع الدولى بعدم حجبها وقمعها للمعارضة، السماح بكل ذلك ورغم كونه حقا أصيلا يكفله الدستور كونه متنفسا للغضب الشعبى المتنامى، بالطبع أمام تحت أعينها الأمينة.
وهى بذلك أيضا أخرجت الغضب من تحت الأرض ليكون أمامها فوق الأرض، فقضت بذلك على أى خطورة ممكنة لـUnderground resistant movements وهى الحركات المعارضة التى تنشط فى الخفاء ولا تستطيع الحكومات اجتثاث تحركاتها وأفكارها.
ذلك التنفيس الذى تراه الحكومة ميزة يتمتع به المصريون مقارنة بحكومات عربية أخرى حجبت من الأصل مواقع التواصل الاجتماعى، فجاء التنفيس لآلاف المواطنين فى الشارع ضد الحكومة كما حدث فى تونس.
تلك الدعوات للتظاهر والثورة، والتجاوب الشعبى الكبير معها على الإنترنت فقط، يجعلنى أكثر إيمانا بأن الشعب المصرى أصبح محصورا جدا فى نطاق القول، وإن مرحلة الفعل تأتى فى مرحلة متأخرة جدا من ترتيب أولوياته ليس فقط فيما يخص التظاهر والاحتجاج بل وفى كل ما يتعلق بالفعل فى مصر.
وللتذكير فإن مجموعة 6 أبريل على الإنترنت قد جمعت ما يزيد على مائة ألف مشارك، ولكن أرض الواقع لم تحمل إلا العشرات فقط فى اليوم الذى توقفت فيه البلاد على أعصابها لترى ماذا سيحدث، فلم تر شيئاً ليس من الزحام بل لأن أحدا لم يفعل شيئا ملموسا.
لعل أحد أهم أسباب ضعف نتائج شبكات التواصل الاجتماعى فى أنها لا تستطيع أن تصل لجموع المواطنين بمختلف انتماءاتهم فهى مقصورة بشكل كبير على فئة الشباب، ولعل العديد منهم يعتبر تلك المجموعات وسيلة للتعارف على أصدقاء جدد خاصة من فئة الإناث أو حتى المشاركة إلكترونيا من باب مجرد الموضة.
وإن كانت نفس مواقع التواصل الاجتماعى قد نجحت تماما فى حشد عشرات المئات للمشاركة فى مظاهرات سلمية خاصة بمقتل الشاب السكندرى ضحية التعذيب خالد سعيد، ونجحت أكثر من مرة فى إدارة وقفات احتجاجية على مستوى كبير من التنظيم والرقى فى العديد من المحافظات.
والمعروف أن التاريخ لم يشهد أبدا ثورة، بمعنى كلمة ثورة حدثت ضد نظام حكم، وذلك النظام يعرف موعدها وأماكن تجمعها ومواقيت انطلاقها، بل وحتى أسماء المشاركين فيها وكلياتهم وأماكن عملهم بل وأرقام تليفونات بعضهم.
فالتاريخ كان دائما شاهدا أن الثورات ينطبق عليها المثل القائل القشة التى قسمت ظهر البعير فتنطلق كتلة لهب مفاجئة تحرق الأنظمة وتدفع قادتها هاربين خارج البلاد كمحمد رضا بهلوى 1979 وزين العابدين بن على 2011 أو حتى إلى المقصلة كلويس السادس عشر فى يناير 1793.
نقطة أخيرة، الزخم الإعلامى الشديد بالثورة التونسية ولد بصيص أمل كبير لدى الشعوب العربية والتى رغم اختلاف ظروفها تحاول تطبيقه بأسرع وقت ممكن، وإذا كانت النتائج المأمولة واحدة فليس شرطا أن تكون البدايات أيضا واحدة، فموضة الانتحار حرقا ليست هى بداية ثورة مصرية وليس كل حارق لنفسه بوعزيزى جديدا، فثورات الشعوب تحدث بشكل مفاجئ، ويكون قدر الارتجال فيها كبير، أما الثورات الافتراضية فيمكنك بكل سهولة معرفة تاريخها وأسماء قادتها مسبقا من الفيس بوك.
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة