معصوم مرزوق

قراءة فى أبجديات اللهب والغضب

السبت، 22 يناير 2011 06:46 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"تبت يدا أبى لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب"..

فعلها سى محمد البوعزيزى.. أشعل جسده، فاشتعلت تونس، وانتشر الدخان فى كل مكان.. إلا أن مشكلة الثورة الناجحة، أى ثورة، هى اليوم التالى لنجاحها.

تونس الخضراء، قرطاج، وسيدة قرطاج، القيروان، فرنسا، الحبيب بورقيبة، سى محمد وسى السيد، وعمنا بيرم التونسى.. صور وقراءات تتداخل فى المشهد المشتعل.. كان يقال إن قوة لبنان فى ضعفه.. فأصبح لبنان عنواناً للمقاومة، ربما العنوان الوحيد.. وكان يقال إن تونس أرض الفرفشة والنعنشة والسياحة، فإذا بها فى لحظة تصبح قبضة غاضبة فى وجه الظلم والاستبداد.

قالها الرجل فى فصاحة متأخرة: "أنا فهمتكم".. دون أن ينبهه أحد من مستشاريه أن ذلك الفهم تأخر ثلاثة وعشرين عاماً.. أو ربما لأن هؤلاء المستشارين شكلوا طبقة عازلة مانعة حرمته أن يسمع أو يرى شعب تونس خارج أسوار قصوره.

مؤكد أنهم كانوا حتى اللحظة الأخيرة يطمئنونه بأن الأمور على ما يرام، وأنها تحت السيطرة، وأن المتظاهرين مجموعة من الأوباش والحرامية، سوف تفرقهم عصا، ولن يجمعهم فيما بعد إلا أسوار الزنازين.. لا تقلق يا سيدى، فكم احترقت قلوب الناس لسنوات قبل احتراق البوعزيزى، ولم يحدث شىء.. اطمئن أيها الزعيم، فأنت الملهم الذى أرسلته الأقدار لنا، وأولئك عبيد آبقين سوف نربيهم.. نم قرير العين فكل شعبك صار أسير الخوف والهلع والجوع.. إنها مجرد زوبعة فى فنجان.
"وللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق"..

سقط الشهيد الأول، ولم يتراجع الناس، سقط الثانى والثالث والرابع، فتزايد زحام المتظاهرين.. انتشر القناصة فوق أسطح المنازل، يصوبون بدقة إلى القلوب والرؤوس، ولكن لا أحد يتراجع.. يتقدم المد الجماهيرى كموج كاسح، "تسونامى" يهتف بحب الوطن والكرامة.

ترى ما الذى فكرت فيه يا سى بو العزيزى فى لحظاتك الأخيرة؟.. إن انتفاضتك لم تكن اعتراضاً على الفقر، وإنما من أجل الكرامة.. لقد عشت مع الفقر، ألفته وألفك، استعنت بالصبر وبالرضا بقضاء الله.. ولكنك لم تتحمل أن تهان كرامتك.. فالحر قد يموت جوعاً، ولكنه لا يستطيع العيش مهدور الكرامة.

أقلقت صيحات المتظاهرين متعة المرفهين الراقدين على شواطئ تونس الرائعة.. أقضت مضاجعهم فى عز النهار، وهم السهارى فى الحانات وعلب الليل.. أغضبت رجال المال والأعمال الرابضين كالتماسيح تحت السطح فى انتظار الفريسة القادمة.. ولم تزل أضواء القصر لامعة والحراس فى أبهى حلل التشريفة منتصبون كالتماثيل حول جدران الرخام.. "أنا فهمتكم".. وظن الفاهمون أن تلك هى الجملة المفتاح، وأقصى تنازل يقدمه الراعى للخراف الضالة.. ولسان حاله يقول: "عاوزين إيه تانى يا ولاد الــ.."..

من المشكوك فيه أنه قد "فهم" فعلاً.. وربما ظل مذهولاً حتى اللحظة التى هرول فيها إلى سلم طائرته كى يفر من البلاد.. لعله كان يتساءل فى براءة عن تلك الآلاف التى كانت تخرج فى استقباله، وتهتف له "بالروح والدم"، عن تلك الأصوات التى كانت تصوت له فى كل انتخابات، عن تقارير البنك الدولى وصندوق النقد الدولى التى تشيد بالمعجزة الاقتصادية التونسية، عن حرارة لقاءات زعماء الغرب فى كل العواصم، عن المقالات التى دبجت لترفعه إلى مصاف الآلهة.. يبدو أنه لم يفهم.. وربما عندما اضطر أن يقول: "أنا فهمتكم"، كان يعنى شيئاً آخر.

ربما كان يعنى أنه "فهم" أن هناك حاجة لاتخاذ إجراءات أمنية أشد، أو أنه "فهم" أنهم بمجرد أن يتنازل بفهمهم سوف يزغردون ويعودون إلى بيوتهم سعداء بفهم الزعيم لهم.. لأن ذلك فى عرفه، وفى عرف من لف لفه تنازل كبير.. لأن المفروض هو أن يفهم الشعب زعيمه (بضم الشعب وفتح الزعيم) وليس العكس، لأنه يفهم كل شىء، ولا ينطق عن الهوى.

التبس الأمر على ولاة الأمر، فسارعوا إلى طائراتهم وهم يحملون الذهب والجواهر، وتأكدوا أن حساباتهم فى البنوك الأجنبية مصونة محفوظة.. عرق الشعب التونسى وصبره وآلامه التى تحولت إلى حسابات خاصة.. ولعلهم حين حلقت بهم الطائرة فوق سماء العاصمة قد نظروا من النوافذ إلى الدخان الذى يغلف المدينة.. هل يعقل أن احتراق إنسان واحد يخلف كل هذا الدخان الكثيف؟.. لم يفهموا أن الحريق كامن فى الصدور سنوات عديدة، وأن النفوس كانت قد وصلت منذ فترة كبيرة لدرجة الاشتعال، ولم يكن ينقصها سوى عود ثقاب.

وبدأ دهاقنة السياسة والتحليل السياسى يخرجون من جحورهم، يجولون بمباخرهم عبر المحطات الفضائية، ويجتهدون فى صنع التعاويذ والأحجبة، فهذا "مولد سى الثورة" الذى لا ينبغى أن يفوتهم، بل وسارع بعضهم بسرعة كى يفض "بكارة" هذه الثورة ويفقدها براءتها، واستعد المحترفون لقطف الثمار من فوق أكتاف الأنقياء، وامتدت الأيادى لانتزاع الجزء الأكبر من "كعكة الحرية"، كى يتم بسرعة خصخصتها، وتعود الأمور لطبيعتها، سادة وعبيد، عسكرى وحرامى، مع بعض التعديلات الضرورية فى بعض الأسماء والمسميات، وإضافة جرعات من المخدر، وإطفاء اللهب الذى أشعله "السى بوعزيزى".

ومن الطريف أن النخب المميزة قد ركزت على ما أسمته "موضة الانتحار بالنار"، قدحاً ومدحاً، وتغافلت عن الهشيم الذى اشتعلت النار فيه، فانشغل البعض فى تقليب صفحات الفقه كى ينقل سطور عقاب "المنتحر" وكبيرة الانتحار، وانشغل البعض الآخر فى نبش دماغ الناس حول أنواع الانتحار والفوارق البنيوية والثقافية والسياسية والهلامية بينها، بينما انشغل البعض الآخر فى محاولة إثبات أن "سى البوعزيزى" قد انتحر لأسباب شخصية نفسية أنثولوجية
"أى حاجية"..
ولا شك أن هناك أسئلة مشروعة، أوجزها فيما يلى:
1. إذا كانت الثورة فى أبسط تعريف لها هى تغيير الوضع القائم بنزع كل جذوره الدستورية والقانونية والسياسية.. فهل ما حدث فى تونس حتى الآن يتطابق مع هذا التعريف؟ .
2. إذا رأى البعض أن الانتحار آداة سياسية.. فهل يمكن تبريره شرعاً أو سياسة أو حتى بأبسط المعايير الإنسانية؟.
3. إذا صح أن النظام التونسى قد حقق بالفعل معدلات تنمية اقتصادية، وإذا صح أن الفساد قد التهم هذه المكاسب.. فما هو وضع المجتمعات التى لا تحقق معدلات للتنمية، ومع ذلك يستشرى فيها الفساد؟.
4. ألا يمكن.. على سبيل الافتراض.. أن يكون على زين العابدين إنساناً بريئاً؟.. لم يكن يعرف بالفعل حقيقة الأوضاع فى بلاده.. لأنهم – أى مستشاريه – خدعوه (أو غالطوه كما قال).. هل يكفى ذلك لمنحه صك البراءة؟.
5. هل من الصحيح أن بديل النظام – أى نظام – هو الفوضى؟.. وأن أى حكم غير عادل أفضل من الفوضى؟.. أليس الظلم نوعاً من الفوضى المكبوتة؟.
6. فى ضوء التجربة التونسية.. هل لا يزال الاقتصاد الحر والخصخصة هو الحل؟، بحيث يقتصر دور الحكومات فقط على الحراسة والأمن؟.
7. إذا غابت الرقابة البرلمانية أو الشعبية، فهل يجوز محاسبة المسئول الذى انحرف أم أن المسئولية تقع على كل برلمانى تمتع بعضوية برلمانية خرساء، أو شعوب ارتضت الهوان وسكتت على الظلم؟.
8. وأخيراً.. هل تصلح التجربة التونسية نموذجاً للتكرار فى مجتمعات عربية أخرى؟.. أليس من الأفضل التريث حتى تكتمل التجربة كى يمكن تقييمها العلمى واستخلاص العبر؟

انتصب حرس القصر كى يؤدى بثبات تحية القائد لساكن القصر الجديد.. وعادت الجموع إلى عششها وجحورها كى تمارس عادة الأحلام السرية التى تغذيها النخب القادرة الواعرة، كى يروا – خيرا.. اللهم اجعله خيراً – الأمان والعدل والمساواة، والقصور وحور عين.. بعد عمر طويل.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة