يقول فرناندو بيسوا: الطفل لا يمنح قيمة للذهب أكثر مما للزجاج، وهل الذهب، للحقيقة، أعلى قيمة من الزجاج؟
وذات صيف سكندرى قضيت أسبوعًا فى شرفة:
أصابنى الفرش الزنخ بالقرف، وعرفت شيئًا جديدًا عن نفسى؛ إذ اكتشفت أن روائح أثاث الشقق الغريبة مثلها مثل روائح مطهرات المستشفيات، تجعل غددى اللعابية تعمل بكامل طاقتها.
لكن نزاهة الضمير تقتضى الاعتراف بأن "زناخة" الفراش العمومى لم تكن السبب الوحيد الذى جعلنى أقضى عطلتى كلها فى شرفة فى الطابق التاسع وأتحمل الدوار الذى يصيبنى، كلما نظرت إلى الشارع، كانت هناك ذراع، تعمدت إحداهن نسيانها مثنية على سور شرفة الطابق الثامن طوال الوقت، حتى تصورت أنها تمضى إلى حياتها وتتركها هناك، تحت عينى مباشرة.
وعندما أوشكت عطلتى على الانتهاء، تجلت السيدة بكاملها مصادفة؛ فتيقنت أنها تدرك سر جمالها الذى يتجلى فى الانعطافة اللينة للحم ذراعها الأبيض، وتحديدًا فى غمازة فوق عظمة الكوع مباشرة، لها فتنة سرت على مهل، وهى بهذه المعرفة من القلة المحظوظة من البشر.
نستطيع أن نتبجح بالادعاء بأننا نعرف كل أسرار أنفسنا أو أسرار الآخرين، لكن بينما المحظوظ فقط يمكنه أن يعرف سرًا واحدًا من أسرار الجسد أو الروح؛ جسده وروحه أو جسد وروح شخص اقترب منه، إلى حد يسمح بمعرفة ذلك القليل عنه.
على ما أظن فقد عرفت شخصيات عشت معها ما يكفى لكى أنسى ما عرفت عنها، وشخصيات رأيتها فى صور، وشخصيات لمست شيئًا من أرواحها فيما تركت من أثر أدبى أو فنى، من دون أية نية لتفضيل الذهب على الزجاج، ولكن بدهشة ما يلمع فى كل منهما كلا المادتين، ولا ألزم أحدًا بالنظر من الزاوية التى تطلعت منها، وليس شرطًا أن يرى ما رأيت.
من كتاب "ذهب وزجاج" يصدر قريبا عن دار نهضة مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة