طه سيف الله

حـــوار ما قبل الانتحـــار!!!

الجمعة، 21 يناير 2011 07:44 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جركن البنزين كان فى يده، بينما عقله يفكر فيما بعد الموت، ويتأمل ظلمة القبر ويوم الحساب ورهبة الوقوف أمام محكمة السماء. وأمام المبنى الفخم للمجلس التشريعى فى وسط القاهرة كان قد استخار قلبه اليائس، وعقد العزم على الانتحار ليبلغ رسالةً شديدةَ اللهجة إلى جميع المسئولين بأنه جامد، ولا يمكن أن ينحنى وأنه، وإن لم يحقق أحلامه فى مصر، فسوف يعيش ملكاً فى الملأ الأعلى.

ولكن خاطرة فاجأته بوجوب أن يخبر خطيبته سهام ولو من باب العلم على الأقل. فأخرج النوكيا المحترم واتصل بها مرات قبل أن ترد وسط ضوضاء فظيعة فى الميكروباص الذى كان يقلها إلى وردية عملها المسائى بعد فترة الراحة النهارية التى تقضيها فى إعداد الطعام لأخواتها وأمها المريضة بالمرارة. ولما أخبرها بنيته فوجئ بها تهنئه قائلةً: "ربنا يقويك وسلم لى على الشيطان".

وبعصبية حاول أن يستجدى منها ولو كلمة واحدة تشجعه أو حتى تثنيه عن فعلته الدرامية مذكراً إياها بأن الفرصَ جميعاً قد سدها المجتمعُ الغاشم فى وجهه ووجهها. وآخرها الرجل اللعين صاحب الشقة الإيجار قانون جديد الذى تراجع فى آخر لحظة قبل زفافهما بأسبوع رافعاً مقدم الإيجار ضعفين، غير شركته الخاصة التى فصلته تعسفاً، فضلاً عن البنت بيسة الشغالة وشكواها المهينة ضده فى القسم والتى صدقها ضابط المباحث الذى أذله قبل أن يخرجه بضمان وظيفته التى فقدها بعد ذلك.

والأسوأ صديق عمره الذى اكتشف مؤخراً أنه يرسل رسائل غرام لسهام على المحمول بائعاً عِـشرة العمر وعشرات الطاولة التى كان يفوز بها دائماً، فضلاً عن سيد البقال الذى هدده بأنه لن يشم رائحة السجائر أو يتذوق طعم الجبن الرومى ما لم يدفع المائتى جنيه وتسعين قرشاً التى عليه على داير المليم، وأيضاً بسبب الانتخابات الأخيرة وحقوق المرأة والطفل الضائعة، ومشكلة انفصال جنوب السودان عن شماله. وصاح قائلاً: "الانتحار هو الحل يا سهام. كيف نعيش فى عالم ملىء بهذا التفاوت الطبقى والتفرقة العنصرية والتلوث البيئى. أخلاقى وتربيتى لا تسمح. ثم أن الدلتا سوف تغرق قريباً".

ورغم تمنياته بأن تبدى تعاطفها أو حتى اعتراضها أو أى شىء ولو حتى تلعن أباه، فقد همست سهام ببرود، وهى تلوك لبانتها المفضلة: "أنا آخر واحدة ممكن تشرب هذا الكلام الفارغ يا منية القلب. فصاحب الشقة لم يحنث بوعده، وإنما أنت يا حبة عينى الذى تقاوم فكرة أن تسكن فى بداية حياتك فى دار السلام حيث الناموس وأشياء أخرى، وذلك رغم أغنياتك المفضلة عن البناء معاً طوبة ذهب وطوبة فضة وطوبة أونطة. كما أن الشركة لم تفصلك ظلماً يا روح قلبى، بل أنت الذى تتجاهل توجيهات المدير الدائمة بأن مواعيد العمل تبدأ فى التاسعة بينما لا تصحو من نومك قبل العاشرة، فضلاً عن مغازلتك الدائمة لسكرتيرة رئيس مجلس الإدارة التى تؤكد أنك راجل بيئة وليس فى مستواها. ثم بيسة الشغالة لم تذهب شاكيةً إلى القسم إلا بعد أن زودتها معها، يا حبيبى، وتجاوزت كل الحدود بما اضطرنى إلى التوسل إلى ضابط المباحث أن يعفو عنك بحجة أنك مزنوق والبنت حلوة قوى. وبالنسبة لصديق العمر عليك أن تسأل نفسك من بدأ بإرسال رسائل العشق إلى خطيبة الآخر، ومن الذى قال لخطيبة الآخر فى رسالة المحمول إن الدنيا معها أحلى من الجمبرى".

واختتمت سهام بأنها زهقت منه ومن رائحته الناجمة عن الاستحمام مرة فقط فى الشهر، ومن تفضيله الاقتراض من أصدقائه على البحث عن عمل، فضلاً عن الصلاة على سطر وسطر. وأنها لا تتصور كيف تنجب أطفالاً لأب أدمن الحلف كذباً وفتح الودع قبل إقدامه على أى فعل، فضلاً عن خوفه من العفاريت، وإن كانت تغفر له حكايته مع بيسة وجريه وراء خطيبات أصحابه والسكرتيرة ذات الشعر الأصفر، فهذه أمور تتفهم النساء الناضجات مبرراتها. ونصحته بأن يضرب سندوتشين جامدين قبل الانتحار ويشرب زجاجتين مياه غازية لأن محافظة القاهرة لا توفر الخبز ولم تدخل المياه النقية حتى الآن إلى مقابر الحسين.

وبمزيج من الرومانسية التى استلهمها من الأفلام الهندى التى يعشقها صرخ فيها بأنه عدل عن قراره عشقاً لها لأنه يحيا فيها وبها ولها وأنها، مثل مصر، هو وطنه وملاذه من المهد إلى اللحد. ثم أنهى المكالمة وألقى الجركن فى أقرب قمامة واندفع وسط الجموع عائداً إلى عمله قبل أن يكتشف المدير الغلس تزويغة مبكراً. وابتسم البطل مزهواً وهو يضع سيجارته السوبر بين شفتيه وأصابعه تعبث فى جيبه بحثاً عن أى كبريت أو ولاعة. بلا جدوى. وابتلعه الزحام.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة