◄◄ تونس حققت إنجازات اقتصادية وضاعفت دخل السياحة والاستثمار لصالح فئة محدودة
السهولة التى سقط بها نظام زين العابدين بن على فى تونس بدت مفاجأة للبعض، وإن لم تكن بعيدة عن دروس التاريخ، فالأنظمة المتسلطة تبدو بالفعل مثل سلحفاة تتحصن داخل درع صلبة، وتموت إذا انقلبت على ظهرها.
سقط النظام خلال أسبوع بعد أن كان الرئيس التونسى السابق بن على يتصور أن الأمور كلها تحت السيطرة، لا ينظر خارج قصره أو سيارته، العزلة منعته من رؤية ما يدور فى الخارج، لم يفهم السبب وراء صمت الأغلبية.
كان الرئيس يكتفى بتقارير تقدم له أرقاما عن حجم الدخل القومى، وعوائد التنمية من سياحة وصناعة واستثمارات، لكنه لم ينتبه أبداً إلى النظام الذى توزع به هذه العوائد.
بالفعل حقق نظام بن على طفرة اقتصادية منذ السنوات الأولى لحكمه، وعندما تولى مهامه كانت تونس تعانى من أزمة اقتصادية خانقة كادت تعصف بالبلاد، وبدأ بالانفتاح على الغرب، وغيّر من تونس كثيراً، وحولها إلى دولة رأسمالية، لكنها مع الوقت تحولت إلى رأسمالية متوحشة يستأثر بها عدد قليل من المحيطين بالنظام، ويتحكم فيها 3 عائلات: «الطرابلسى» و«بن عياد» وبشكل ضئيل «بن يدر» وجميعها متصاهرة، وكانت لديها ميليشيات خاصة تتجسس على المواطنين، وكانت شركات الاتصالات والإنترنت والسياحة وأراضى الدولة الزراعية يملكها أصهار الرئيس الذى حكم البلاد اقتصاديا بقبضة من حديد. سقطت تصورات بن على وحكوماته حول التنمية والإصلاح الاقتصادى والإنجازات، والتى كان الإعلام والحزب الحاكم يقدمها على أنها نهاية المطاف، يتحدث معاونوه عن الشعب السعيد، بينما العاطلون يتضاعفون، وثمار التنمية للمحتكرين والمحيطين بالنظام.
فى السياسة مثل الاقتصاد، بدأت سنواته الأولى بوعود وانفتاح، بدأ الرئيس بن على حكمه بفتح قصر قرطاج للأحزاب والمثقفين من غير المنتمين للحزب الدستورى الحاكم، وقدم وعوداً وردية بتحقيق آمال ومطالب الشعب التونسى، وفى سنوات حكمه الأولى بدا كأنه يتفهم الشعب ورغباته، ترشح وفاز، ونسى وعده بأن تكون الرئاسة محددة بمدتين، مدها وجعلها أبدية، أما التجمع الدستورى، الحزب الحاكم، فقد ظل تحت رئاسة بن على.
وأجرى تعديلا دستوريا لإزالة الحد الأقصى لتقلد المنصب الرئاسى، ومنحه الحق فى الترشح لانتخابات 2009، ومنح تراخيص عمل لعدة أحزاب غير فاعلة، ونشاطها السياسى ضئيل كـحزب الخضر والاتحاد الديمقراطيين الاشتراكيين، بينما أزاح المعارضة الحقيقية، ممثلة فى حركة النهضة وحزب العمال الشيوعى، نظرا لشعبيتهما العالية لدى الأوساط الدينية والعمالية، ومنع صحيفة «الموقع» التى يديرها الحزب التقدمى والمعارض الأبرز أحمد نجيب الشابى من النشر عدة مرات، وتم حجب موقع «youtube» وفرض رقابة صارمة على الإنترنت الذى كان يملكه أقاربه وأصهاره.
ظل الحزب الحاكم يفوز بكل مقاعد مجلس النواب، وفى أعوام 1994 و1999 و2004 فاز فيها بكل المقاعد وحصل على أكثر من 90%، والأمر نفسه فى الانتخابات البلدية.
فاز زين العابدين بن على فى الانتخابات الرئاسية لسنوات 1989 و1994 و1999 و2004 و2009 بنسبة فاقت فى كل مرة 90%، وبدا أنه ينوى الاستمرار بلا نهاية.
الحزب الحاكم اندمج مع الحكومة واندمجت معه، وزعم أن عدد أعضائه يبلغ أكثر من مليونين، إلا أن المختصين يقدرون أعضاءه ببضعة آلاف فقط، واتضحت هشاشة الحزب مع اندلاع المظاهرات الغاضبة لملايين التونسيين ممن عانوا القمع والفقر والفساد، وغياب تكافؤ الفرص.
الشاب التونسى بوعزيزى الذى، أشعل النار فى نفسه، ولم ينتبه النظام إلى أن النار أمسكت بذيله، ولم يصدق أن تلك النيران تعرى بأضوائها الظلام والظلم والاحتكار، وتكذب الحديث عن الرفاهية والتقدم والتنمية.
لم ينتبه الرئيس السابق إلى أن الخطر يدق بابه، وواصل خطاباته الاستعراضية والتحذيرية، وأفاض فى الحديث عن إنجازات نظامه وحزبه فى التعليم ورفع الدخل القومى، وبدا منفوشا وهو يهدد الشعب ويعايره بإنجازات اقتصادية لم يشعر الشعب بثمارها.
انفتح بن على على الغرب، واستخدم أجهزة الدعاية لتحسين صورته فى الغرب، وظل لفترة طويلة يحظى بتأييد غربى، ويشوش على المعارضين وأصوات المواطنين، ليمنع تغيير صورته أمام العالم، لكنه عجز عن إخفاء الصورة طوال السنوات العشر الأخيرة من حكمه الممتد.
زين العابدين ألقى أربعة خطابات خلال أزمة المظاهرات، كانت ثلاثة منها تحمل صلف الرئيس القوى، وتتضمن تحذيرات للمتظاهرين، وقال إن حكوماته حققت إنجازات، وإنه يريد توفير فرص عمل للعاطلين والخريجين، وإن العالم شهد لتونس، وتجاهل هتافات المتظاهرين واتهاماتهم بالفساد للمقربين من الرئيس وعائلته وطغمة المتحالفين مع السلطة الذين يحظون بالمكاسب، واتهم المتظاهرين بأنهم أقلية من المحرضين والمأجورين يدفعون للعنف والشغب، وأن هذا يعوق الاستثمار والسياحة.
لكنه فى خطابه الخميس، اضطر للإفراج عن هؤلاء، وأن يقيل وزير داخليته لتهدئة المواطنين، أفاق من غفوته بعد 23 عاماً، وحاول إنقاذ نفسه وحكمه، أعلن أنه يتفهم المتظاهرين ومشكلاتهم ويعترف بأنه تعرض للتضليل: «لقد ضللونى».. وبعد أن كان يتهم الشعب بالعمل لصالح جهات أجنبية، أعلن إقالة وزير داخليته، وألغى الرقابة على الإعلام والإنترنت، وأمر بخفض الأسعار، وأقال مستشاره لرئاسة الجمهورية ومتحدثه الرسمى، ثم الحكومة.
لكن الأوان كان قد فات، وفقد الديكتاتور مخالبه، أمام مظاهرات الفقر والظلم والتسلط، وغياب العدالة وانتشار الفساد الذى جعل الإنجازات لصالح فئة محدودة، واعترف متأخراً بأنهم ضللوه، مع أنه أطلق أجهزة الأمن فى عمليات القمع والتهميش للمعارضين والشباب، وأغلق سبل التعبير، وساند الظلم الذى أنتج عاطلين ومحبطين ومنتحرين، بينما عائلة الطرابلسى من أصهاره كانت تستفيد من كل شىء، وزوجته ليلى الطرابلسى أو ليلى بن على هى سيدة تونس الأولى، ورئيسة جمعية الاندماج الاجتماعى، ومنظمة المرأة، وجمعية مكافحة السرطان التى تحمل اسم والدتها.
