خديجه كمال تكتب: نجيب محفوظ.. عطاء لا ينقطع بالغياب

الأربعاء، 19 يناير 2011 09:28 م
خديجه كمال تكتب: نجيب محفوظ.. عطاء لا ينقطع بالغياب الروائى الكبير نجيب محفوظ

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
" المجلس الأعلى للثقافة فى مصر، قرر إطلاق احتفالية العام فى 11 ديسمبر مواكبة للعيد المئوى لميلاد الروائى الكبير نجيب محفوظ، وتستمر الاحتفالية حتى نهاية عام 2011".. خبر صغير فى حجمه كبير فى معانيه، تلقيته ببالغ الرضا، وانشراح الفؤاد.. خبر جدد التأكيد على أن الموت لا يحجب عنا إلا الوجود الذاتى، بينما يبقى إبداعه متربعا على قلوب كل محبيه وعشاقه عن جدارة واستحقاق.

نجيب محفوظ هذا الاسم العظيم ظل راسخا بالنسبة لى فى الذاكرة يعيدنى إلى السنوات الدراسية الأولى بإبداعها وطقوسها، شاءت لى الصدفة أن ادخل إلى عالمه الروائى وأنا فى سن مبكرة بعدما احتكر إخوتى تليفزيون البيت لمشاهدة فيلم أمريكى وحرمونى من متابعة مسلسل الثلاثية الذى كانت تنقله القناة المغربية الأولى مساء كل يوم، مازلت أذكر ذلك اليوم وكأنه البارحة، وكيف أننى لم أنم إلا فى آخر ساعات الليل، مما جعلنى أذهب إلى المدرسة فى اليوم الموالى فى حالة من الإرهاق والتعب انتبه إليها معلم مادة اللغة العربية، فسألنى عن السبب، فحكيت له الموضوع، فاقترح على أن أشترى الثلاثية، وبذلك يمكننى أن أستغنى وقت ما شئت عن مشاهدة التليفزيون، وفعلا هذا ما تم، فكانت أول مرة تطأ فيها رجلاى مكتبة كبيرة، طلبت من مسئولها أن يعطينى إياها، فاندهشت لحجم العمل الذى كان عبارة عن ثلاثة أجزاء (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) جاء اسم نجيب محفوظ كبيرا بارزا فوق أغلفتها، دفعت المبلغ المطلوب منى دون أن أفكر فى أننى قد تجاوزت القدر الذى كان مسموحا لى به أن آخدة كمصروف لى، ربما لأن متعة الأحداث التى كنت أنتظر قراءتها، كانت أكبر من أى عقاب أسرى، ومن يومها اتخذت إبداع هذا الكاتب الكبير رفيقا لا يفارقنى، وبات متعة روحية صغرت أمامها كل هوايات الحياة، أدهشتنى الثلاثية فى بادئ الأمر لضخامتها فقد تجاوزت ما يتوقع فى أطول الروايات، ولكن الجميل فى الأمر هو أنك وأنت تقرأها منذ تبدأ إلى أن تنتهى لا تلمس فيها ضعفا أو فتورا، لاينتابك أن كاتبها أصابه شىء من الإعياء أو التراخى، فحتى إن شغلك أى شىء عن القراءة ما تكاد تنهيه بسرعة لتعود مجددا لإكمالها، بل وبدون مبالغة تكاد ترى فى قراءتها وجوه الناس وتسمع أصواتهم، كتبت بلغة بسيطة يمكن حتى للأمى أن يفهمها لو قرأتها عليه، تأتى فيها الجمل العامية أحيانا باستحسان، فتأخذها بكل رضا، وأظن أن ذلك لم يكن اعتباطيا ومحض الصدفة، لأن نجيب محفوظ استخدم ما تلقاه فى دروس الفلسفة جعلته على دراية تامة بردود القارئ النفسانية، ومن خلال هذا العمل الضخم عايشت كل قضاياه الاجتماعية فى وصف الأسرة وعاداتها حتى شعرت أننى أحد أطرافها الخفية، أما الجانب التاريخى فقد بدا واضحا فى وصفه الدقيق والعميق للثورة المصرية فى أعقاب الحرب العالمية الأولى وردود فعلها فى قلوب الشعب على اختلاف طبقاتهم، الشباب بنفوسهم ودمائهم، الشيوخ بأموالهم والأمهات والأخوات بأمانيهم ودعائهم، فعلا لقد جسد هذا الهرم ونقل إلى العالم قضايا وطنه وحاراته المصرية، أما باقى أعماله إن أردنا التحدث عنها فكلها كانت غنية فى جميع مراحلها الثلات، المرحلة التاريخية لمحت فى "عبث الأقدار" "رادو بيس".. المرحلة الاجتماعية التى كانت أكثر عطاء "القاهرة الجديدة، خان الخليلى، السراب، زقاق المدق، بداية ونهاية،الثلاثية"، وأخيرا المرحلة الرمزية التى تمثلت فى "الحرافيش، وأولاد حارتنا" التى عملت ضجة حين اعتبرها بعض الهيئات تطاولا وتجاوزا على الذات الإلهية وعرضته لمحاولة الاغتيال، ليقول بعدها تصريحا للنقاد على أنها رواية وليست كتابا وهى تركيب أدبى فيه الحقيقة وفيه الرمز، فيه الواقع وفيه الخيال، ولا يجوز أن تحاكم الرواية إلى حقائق التاريخ، لأن فى ثقافتنا أمثلة كثيرة لهذا النوع، يكفى أن نذكر منها "كليلة ودمنة" فهى تتحدث عن الحاكم ويطلق عليه وصف الأسد، ولكن بعد ذلك يدير صاحبها كتاباته كلها داخل إطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان منتهيا فى آخر المطاف إلى العبرة والحكمة.

لقد تنوعت مواضيع نجيب محفوظ واختلفت ولم تحكم بالجمود، اتسمت بالواقعية الحية قبل أن تنتقل إلى الرمزية، بل ظلت رؤيا وسطية حظيت باهتمام كل الفئات، فكما جاء على لسان مجموعة من النقاد فى أكثر من مناسبة، نجيب محفوظ كاتب رضى عنه اليمين والوسط واليسار، ورضا عنه القديم والحديث، ولكثرة النقاد وما قالوه عنه يتخيل إلى المرء أنه لا يوجد ناقد لم يكتب عنه، طاوعه خياله سنوات ورافقته الموهبة والإبداع، فترك لنا الأرض مفروشة بأعمال ضخمة تحمل كل يوم إلى عالم الفكر والأدب ما يشغل الناس، هو بحق ثورة جميلة وكاتب عظيم جلس مع الناس على بساط المحبة والديمقراطية، وتقاسم معهم لغة بسيطة لا تختلف فى بساطتها عن حديثهم اليومى، شرف الأدب العربى بصفة عامة بجائزة نوبل، وكان مفخرة للمصريين بصفة خاصة، افتخر بعروبته ووطنيته فى أكثر من مناسبة، فلا يمكن لأحد أن ينسى ما صرح به عند حصوله على جائزة نوبل (اسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية، أنا ابن حضارتين تزاوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية).

لقد لعب هذا العبقرى دورا مهما فى نقل صورة حقيقية عن مجتمعه للأوساط العربية والغربية بترجمة أعماله للغات عدة، وكتجربة شخصية لقد جعلنى هذا الكاتب العظيم أن أتعرف على أحياء القاهرة وشوارعها، فيوم قدمت إلى مصر جاءت فى مخيلتى انطباعات شتى يختلط فيها كل ما قرأته وكل ما أردت أن اكتشفه بنفسى، ليحل مكانها إحساس بالانتماء، أتيتها زائرة فسكنتنى.

رحمة الله عليك يا أيها الكاتب العملاق، فقد كنت أجود من البحر فى العطاء، عبقريا أشك فى أن ينجب التاريخ أمثالك، لأنك ظاهرة بكل المقاييس ستستمدها الأجيال من مدرستك لما قدمت من أعمال ستذكر على الدوام.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة