"ما لكش دعوة". ذلك اسمها على الـ"فيس بوك". وهى، حسب وصفها وصورتها، موظفة تعمل فى مدينة ساحلية ومحجبة وسنها لا يراوح العشرين، شقية كسعاد حسنى بمسحة حكمة من سقراط. كما علمت من دردشتى معها ذات مرة أن اسمها عبير، وأنها تعشق الشيكولاتة والسيارات اليابانى ومثلها الأعلى أنجلينا جولى وتكره هتلر وتمقت خيانة الرجال!
وقد قلبت صاحبتنا الإنترنت رأساً على عقب يوم رحيل الرئيس زين العابدين تاركاً بلاده وسط الفوضى، والتوقعات والتطلعات والأحلام وبعض الكوابيس. وبعصبية أخذت تعاير أصدقاءها على النت بأن رجال مصر ليسوا رجالاً حقيقيين كنظرائهم فى تونس، كما أن نساءها بالتبعية لسن نواهد أو كواعب كنساء الخضراء، بينما أطفال مصر، فى منظورها، ليسوا أبرياء كأمثالهم فى تلك الدولة الشمال افريقية التى صارت عبير تعتبرها نموذجاً لسعى الشعوب نحو الحرية والكرامة، وغير ذلك من الكلمات القاسية التى قالتها لنا تعريضاً وتحريضاً وحرقاً للدم. والأسوأ أنها صدمت الجميع بأن أكلة الكسكسى المصرية ماسخة مقارنة بالكسكى التونسى.
وعبثاً حاول شباب الموقع الإلكترونى الشهير ومخضرموه أن يهدئوا من روعها. فمنهم كاتب قومى أخذ يسخر من المعارضين القـُرع الذين يزهون بشعر ابنة أختهم على حد قوله، ومنهم بعض الموظفين على المعاش الذين حاولوا أن يفهموها بأن التضحيات فى تونس كانت جسيمة وبحور الدماء التى سالت غزيرة، ومنهم المتمردون الذين سألوها عمن يجب أن يشعل النار فى نفسه، لتندلع الشرارة الأولى للثورة المأمولة. وذلك غير الفتيات ماضغات اللبان اللاتى حاولن الاستفسار عن العلاقة بين أى تغيير واستمرارهن فى نمط حياتهن من فيس بوك ولف ودوران طوال اليوم بين الكلية والكافيه. ومنهم سيدة، اسمها روحية، نصحت الجميع إلا يستشهدوا ببيت الشابى الشهير "إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر"، لأن القدر لا يستجيب للإنسان بل العكس هو الصحيح. وأخيراً طالب فى السنة النهائية بكلية الآداب طلب منها رقم هاتفها المحمول أو عنوان المنزل لأنه يريد أن يتحدث مع أبيها عن أمر يهمه ويهمها بعد التخرج، لا أعرف تخرجه هو أم تخرجها هى.
وفجأة اقتحمت المناقشة فتاة غريبة الأطوار، اسمها على الـ"فيس بوك" سهـــام وتبدو صادمة وعدوانية، وأخذت تصرخ فى وجه عبير بأننا لا ندرك أن التغيير، أى تغيير، لا يجب أن يكون إلى المجهول، وأن على دعاة ذلك التغيير أن يحددوا رؤيتهم للمستقبل أولاً، وهو ما يعنى بالضرورة اتفاقهم قبل ذلك على الحد الأدنى من فهم الحاضر واستيعاب الماضى.
وقبل أن تفيق الآنسة "مالكش دعوة" من صدمتها قالت سهـــام إن التغيير إذا حدث بعشوائية فإننا سوف نبدأ المستقبل بالخلاف ثم الشقاق ثم الصراع، وربما تسيل بيننا بحور من الدم الزكى. فسألتها عبير لماذا؟ فقالت سهام إننا لم نتفق بعد على أى شىء. فثورة 52 عند بعضنا انقلاب أسفر عن وأد حركة التاريخ، وعند البعض حركة اجتماعية وتاريخية أتت بأول حاكم مصرى واضعةً مقادير المصريين بين أيديهم. وحرب 67 عند أوائلنا هزيمة لحلم القومية وأمل العروبة، وعند أواخرنا مجرد نكسة أفضت إلى حرب 73 التى يعتبرها البعض حرب العبور إلى النصر ويراها الآخرون مجرد نصر مبدئى انتهى بثغرة. أما السلام مع أبناء العم فيراه دعاة التطبيع التزاماً بأمر الله أن نجنح إلى السلم أن جنحوا لها، فيما يراه شاعرنا أمـل دنقل خروجاً على مبدأ "لا تصالح وأن منحوك الذهب". والديمقراطية عند بعضنا ذات أنياب وعند الآخرين مجرد تجربة، ناهيك عن أن الحب عند بعضنا غرام فى إطار الزواج (لا ندرى كيف!) وعند الآخرين لا يبدأ إلا بعد الطلاق.
وتنهدت سهـام بحزن وهى تذكر عبير، ونحن معها، بأن مصر لم تتحدد بعد معالمها وسط خلافتنا الأزلية حول فرعونيتها أم عروبتها أم أفريقيتها أم شرق أوسطيتها أم إسلاميتها، فضلاً عن صراعاتنا عن وجوب أن تكون المحروسة عاصمة الخلافة أم دولة مدنية أم قلب العروبة النابض أم عاصمة الفن الراقص.
وباستسلام حاولت عبير التدخل قائلة لتلك الفتاة التى قلبت المائدة "أنك تغتالين أحلامنا وتقتلين تطلعاتنا بحجة عدم اتفاقنا. فأين مفترق الطرق يا سهام الجميلة ؟؟" وببرود ردت سهام "ما لكش دعوة".
*كاتب مصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة