كانت الشرارة الأولى فى تونس ضد البطالة، أحرق شاب نفسه فى منطقة سيدى بوزيد، وهى من المناطق التى أهملتها السلطة، ولم تمتد لها يد الإحساس بالمسئولية.
بدأت الاحتجاجات.
كان من الممكن أن تتوقف لكن اليد الغاشمة اعتقدت – ككل الأياد الغاشمة- أنها يمكن أن توقفها بالحل الأمنى وحده، وبإشعال نار الخوف التى انزرعت فى نفوس الناس منذ زمن طويل.
أبت اليد الغليظة إلا أن تمارس عادتها، أطلقت الرصاص وتطايرت أرواح الشهداء.
وبدأ الحريق.
خرج الرئيس السابق فى خطاب أول ليهدد ويتوعد، كان لافتاً مشهده وهو يدق الطاولة أمامة مرتين يهدد ويقول: بكل حزم.. بكل حزم.
وتزايد الشهداء، وانهالت الصفعة الأولى على وجه السلطة، وخرج الرئيس- السابق طبعاً ليشير إلى ملثمين – أى لصوص حقراء- نهبوا المحلات وأحرقوا المؤسسات العامة.
هنا جاء دور المثقف، خرج فاضل الجعايبى المخرج المعروف ورد عليه – فى قناة الجزيرة – بالطبع ليس فى التليفزيون التونسى قائلاً: لقد وقفنا وقفة احتجاج سلمية فنانون وسينمائيون وصحفيون، ولم نكن ملثمين.
وكانت الصفعة الثانية.
واتسعت الاحتجاجات وتزايد الشهداء الشهود، واضطر بن على فى مشهد سوف يبقى طويلاً على لائحة مقاومة الديكتاتورية أن ينزل على إرادة الناس وأن يفتح مزاد الديمقراطية والإعلام وخفض الأسعار.
كان كمن يرتجى ولم يدق الطاولة بيديه.
كان لا بد من الدم، أريق دم الشعب التونسى المسالم الذى عاش تحت قدم الخوف والتخويف زمناً طويلاً.
أهدر دمه باليد الغليظة التى تيقنت طويلاً أنها سوف تسكت الشعوب إلى الأبد.
كان لابد من الدم، لكى ترتوى به الثورة وتستيقظ فى كل أرجاء تونس.
وكان لابد من قناة الجزيرة – التى وإن اختلفنا معها فى أشياء كثيرة إلا أنها كانت البطل الثانى فى مشهد الشهداء.
كان لابد من بركات جديدة للفيسبوك.
راهنا طويلاً فى كل مكان فى العالم العربى على العصيان المدنى والاعتصام السلمى فى أحسن الأحوال وأغلى الأمنيات ومازلنا.
لكن يبدو أن حكوماتنا لا تعتبر وأن الدم أصبح الآن وساماً وشارة كما قال أمل دنقل من قبل.
وفى لحظة آسرة غاب البوليس عن الشوارع – اللهم إلا أمام وزارتهم المشئومة- لا يجرءون على المواجهة، وقناصتهم من الخسة والجبن يقتلون من بعيد كما يليق بهم، متخفين كالجرذان.
أهتف وأنا فى قلب المظاهرة هذا الدم هو النصر الحقيقى للشرفاء وللشعوب المكبوتة، والهزيمة الساطعة للجبناء.
لم يحرض أحد الناس، لا جماعات معارضة (حيث لا يوجد عندنا أحزاب إلا أحزاب الكراسى الخشبية)
ثم رحل بن على.
أود الآن أن اقف على قبر محمود درويش الذى قال – لابد من نصر إلهى لينتصر الرسول- لأقول له إن النصر بيد الذين يؤمنون به ويخضبون أعلامهم بدمائهم.
أود أن أقول لأبى القاسم الشابى استرح الآن لا تتململ فى قبرك أنت الفائز الأول، صرختك انتظرت مائة عام، والناس كلها الآن تهتف باسمك وتقول الآن بصدق، تصدقك وتصدق نفسها:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة.
* صحفى وروائى من مصر مقيم فى تونس
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة