كثيراً ما تمتعنا وتستهوينا المجاملات, نتبارى ونتفنن فى صياغتها, لكن أن نقف لحظة صدق مع النفس ومع الآخر, فتلك مخاطرة.. فى قاموس المجتمع يسمى التدليس والنفاق "ذكاءً اجتماعياً" بدونه يضحى الشخص بلا رفيق, ومع الوقت أصبح النفاق الاجتماعى ضرورة ملحة وسمة من سمات العصر, من يمتلك موهبته فقد أصبح رائداً فى إدارة العلاقات الاجتماعية, واكتسب ود الجميع من حوله, يشار له بالبنان, حتى أصبحنا غرباء عن أنفسنا وعن بعضنا.
وحين نبحر فى أعماق أنفسنا نجد أنه لا ثقة بين أحد, فجميع العلاقات تصب فى خانة المصالح المشتركة, ودونها لا يوجد مسمى للعلاقات الإنسانية الخالية من أى أغراض, وتحول نبل المشاعر إلى عملة صدئة لا أحد يتداولها.
غادرتنا الأحلام, وسكنت قلوبنا القسوة, وكلما أوغلنا فى اكتشاف أنفسنا نجدها بعيدة فالاغتراب أقرب.. ضبطت نفسى متلبسة بإثارة تساؤلات موجعة ومتكررة وملحة لا تحمل الإجابات, لكنها تحمل قدراً كبيراً من الأسى والرفض والتمرد.. لماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هذا الخواء النفسى والإنسانى الذى يحاصرنا من كل تجاه؟ ولماذا أصبح الانتماء مجرد شعار نتغنى به ولا نمارسه؟
الانتماء إحساس فطرى ينميه الوعى, والوطن معنى ليس بالضرورة أن تحدده الجغرافيا أو العرق أو اللغة, لكنه الإيمان بهذا المعنى والعمل من أجله.
الانضباط والنظام وحب الآخر والنظافة هى أمثلة لثقافة مجتمع, وسلوك انتمائى وعقيدة راسخة تتوارثها الأجيال, لطالما آمنت بأن الانتماء للوطن هو فعل, والفعل يحمل خلاصة التجربة, وحب الوطن يبدأ بحب الذات لترى الأشياء من حولها جميلة ومبهجة.
تحضرنى فى هذه اللحظات تجربة فريدة كان قد أثراها الشاعر الراحل توفيق زياد رئيس بلدية الناصرة فى فلسطين (مناطق 48)- آنذاك- تجسد فيها معنى الانتماء للوطن والارتقاء به.
فبعد نهاية العام الدراسى وفى الإجازة الصيفية يقيم مخيم للعمل التطوعى فى مدينة الناصرة يجمع فيه فئات متنوعة من الشباب من مختلف المدن والبلدات الفلسطينية والهدف من هذا المشروع إحياء قيمة العمل وإذكاء روح التعاون والارتباط بالوطن, وتنمية فضيلة الانتماء, ويقوم مشروعه على مبدأ "مدينة نظيفة.. انتماء أقوى" يباشر فيه الشباب المتطوع، وهم من طلبة الجامعات والمدارس برنامج محدد طوال فترة المخيم (أسبوع لكل فوج) ويتضمن البرنامج تنظيف شوارع المدينة ورصفها وإعادة ترميم الفصول والمقاعد الدراسية فى المدارس وتشييد أسوارها وطلائها, وغرس الأشجار فى شوارعها, وقطف عناقيد العنب من الكروم التى تشتهر بها المدينة, ويتوج نهاية يوم عمل شاق حفلات سمر ونشاطات ثقافية واجتماعية, وترفيهية مختلفة تجمع الشباب فى بوتقة واحدة هى بوتقة حب الوطن, تدور فيها النقاشات الفكرية والأدبية على اختلاف أشكالها وألوانها ليخرج الشباب بعد هذه التجربة أكثر وعياً وإدراكاً بقيمة العمل والعطاء والانتماء, ومعرفة بثقافة الآخر.
حينما أقارن هذه التجربة بما يحدث هنا, يساورنى الشك فى إمكانية تبنيها, لسبب بسيط فكر وثقافة المجتمع لا تنسجم مع هذه الثقافة, ونمط التفكير, وإلا لما وجدنا أنفسنا يومياً نغرق فى أكوام مكدسة من القمامة فى كل مكان وفى أرقى الأحياء وعلى أعتاب البيوت ولا أحد يكترث الشوارع تملأها الحفر والمطبات ولا نهتم, تقطع الأشجار بلا مبرر وبشكل مشوه بدلاً من تزيين الشوارع بغرسها ولا أسباب منطقية, واجهات العقارات أكلتها السنون ولا نفكر فى إعادة تأهيلها, القبح الشكلى والسلوكى ملء الأعين والأنفس ولا نلتفت أو نتأمل ما يجرى من حولنا.
أتساءل ويقتلنى الفضول لماذا لا يجتهد الشباب ويتبنى مثل هذه التجربة؟ لماذا لا نكون غيورين على بلدنا ونطمح أن نكون أفضل, فبدلاً من الإحساس بالفراغ وإهدار الوقت فى سلوكيات تفقد المجتع شعوره بالأمان بتفشى الإدمان فى أوساط الشباب وازدياد حجم الجريمة, وتصاعد وتيرة التعصب الدينى الأعمى, والسقوط فى هاوية الإرهاب, وتزايد حالات الاكتئاب.. و.. و..
لماذا لا يفرغ الشباب هذه الطاقة الكامنة فى عمل خلاق, ينمى روح العطاء والانتماء, ويغرس فيهم ثقافة العمل والتعاون من أجل بيئة نظيفة وحياة أفضل, بدلاً من الوقوع فريسة للاكتئاب وفخ اللامبالاة الذى سيطر على عقول الشباب وزاد من وطأة الإحساس بالاغتراب, والاستسلام للفراغ والبطالة والعجز, والجنوح نحو التطرف الدينى, والابتعاد عن قيمة العطاء وتقوية روابط الانتماء.
لو آمن الشباب بقدراتهم وعطاءاتهم وإمكاناتهم وبالدرجة الأولى بانتمائهم, لتغيرت مفاهيم كثيرة, ولو شعرنا بأننا ننتمى إلى هذا البلد مهما قسى علينا ذوو القربى, لكنا أفضل بكثير مما نحن فيه الآن, وإذا كانت الحكومة غير مكترثة بمعالجة مشاكل شبابنا والاهتمام بأفكارهم, فلماذا لا نتحلى ولو بقدر ضئيل من فضيلة الانتماء والإيمان بقيمة العمل.. ونبدأ بأنفسنا.