الحلقة الرابعة.. من رائعة الأديب الكبير صنع الله إبراهيم : الجليد

الخميس، 13 يناير 2011 09:06 م
الحلقة الرابعة.. من رائعة الأديب الكبير صنع الله إبراهيم : الجليد صنع الله إبراهيم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ملخص ما نشر.. الأحداث فى بداية السبعينيات.. يبدأ شكرى فى الخامسة والثلاثين رحلته ضمن الدارسين الأجانب فى موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتى، فى بيت المغتربين «الأبشجيتى» فى غرفة مع ثلاثة آخرين، الوقت شتاء والجليد يغطى الأرض والشعارات الشيوعية فى كل مكان.

يتنقل شكرى مع رفقاء وزملاء بين المطاعم ومحطات القطار والحافلات ويسهر فى أحد مطاعم موسكو، وبين تنقلاته نتعرف منه على زملاء من دول عربية وأوروبية من اليساريين فى بلادهم الذين قدموا للدراسة والإقامة فى الاتحاد السوفيتى، وبشكل غير مباشر نلمح مناقشات عن مصر، والوضع فى الشرق الأوسط ،وعلاقة الاتحاد السوفيتى بالأحزاب الحاكمة فى سوريا أو العراق.

فى الفصل التالى يواصل شكرى توغله فى المجتمع، يرافق زويا إلى كونسرت فى البلشوى تعزف فيه رباعية لموتسارت، ويعود لنرى علاقة بين هانز وزويا، ويذهب شكرى يوم السبت مع فريد وبشار السورى وصديقته هيلين إلى منزل صديقة فريد الروسية على مسافة ساعة ونصف الساعة بالقطار، ويواصل رصده لأحوال الاتحاد السوفيتى وغياب الحريات، ويتحدث مع الآخرين عن مشاكل المسلمين والمسيحيين فى مصر.

وتتواصل جولات شكرى التى تتنقل بين المترو والأبشجيتى والدارسين الأجانب والعرب، ويكتشف شكرى أنه مصاب بالتهاب البروستاتا.

يواصل شكرى عمله على الآلة الكاتبة، ويواصل عمله فى الصحف المصرية خلال فترة حرب يونيو 67، وخلال هذا ينسج علاقات مع الفتيات مثل باقى الدارسين.

فى الفصل الثالث يواصل شكرى جولاته، ويضيق بالأبشجيتى، بيت الطلاب، بعد أن تخبره المشرفة أن هناك قادما جديدا، وتلمح له إلى إمكانية أن يسكن خارج الأبشجيتى وبالفعل ينتقل ليسكن لدى عجوز وحيدة تنام فى المطبخ، وتؤجر له الغرفة الوحيدة. ونتعرف مع شكرى على الأحوال فى الاتحاد السوفيتى تحت حكم بريجنيف، كما يواصل علاقاته مع الفتيات، ويصطدم شكرى بالعجوز أكثر من مرة حيث تشكو من الوحدة وتطارده بثرثرتها وشكاواها.

نتعرف على لامارا وناتاشا، وتاليا وزويا الدارستين الروسيتين اللتين تتعرضان لمحاولة اغتصاب وضرب من دارس أوزبكى مغترب، وتدخلان المستشفى، ويطرد الطالب. يخرج شكرى مع زميله السورى حميد إلى أحد المحلات للشراب والبحث عن فتيات، يقول له حميد هل تعرف كم يعيش فى موسكو؟ بين 8 و10 ملايين إنسان، منهم مليون متزوجون، ومليونان عجائز فوق سن الجنس، ومليونان عجائز تحت سن الجنس، وثلاثة ملايين من النساء بين سن 20 و45، ويضيف: كل هؤلاء يعيشون على الانتصارات الصغيرة: شراء، الحصول على تذكرتى مسرح، أو زوج من الأحذية أو ملابس داخلية مستوردة.

يلتقيان مع فتاتين إحداهما جميلة والأخرى دميمة، فيخبره حميد هذا نابور، قاعدة الحياة السوفيتية التى تقول إنه عندما تريد شراء شىء تجده يباع مع شىء آخر لا تريده، فعليك أن تشتريهما معاً.




(39)

حملت الصحف أنباء تصفية الفدائيين الفلسطينيين فى لبنان على يد الجيش. عاد هانز من ألمانيا. ذهبنا سويا إلى «معرض الإنجازات الاقتصادية للاتحاد السوفييتى» القريب. مطر خفيف. مررنا فى المدخل بتمثال من الصلب لعامل يمسك بمطرقة وفتاة تمسك بمنجل وهما متماسكا الأيدى يسيران بجرأة نحو المستقبل المشرق. وفى الناحية الأخرى مسلة من الصلب للسفينة «فوستوك الشرق» التى صعد بها جاجارين إلى الفضاء، نقش على أحد جانبيها عدد من العلماء والمهندسين يضعون جاجارين فى صاروخ ومن الناحية الأخرى لينين يقود الجماهير إلى الفضاء.

مررنا بأجنحة الطاقة الذرية وصناعة الفحم والبيولوجى والتعليم والفيزياء والنقابات وتكنولوجيا الكهرباء والزراعة. قال إن الأمور فى ألمانيا الشرقية تماثل وضعها فى روسيا. لكن الناس أكثر انضباطا. سألته عن عائلته فقال إن أمه تعانى مع الطبيب الذى تزوجته بعد اختفاء أبيه خلال الحرب، «رجل سيئ عاملنى بقسوة فتركت لهما المنزل».

حدثته عن أمى المشلولة. سرنا فى اتجاه الصناديق التى يغلق الواحد منها على شخصين ثم يدور بهما فى الهواء وينقلب. اقترح هانز أن نصعد. رفضت. اشترى بطاقتين. لمحنا فتاة طويلة فى معطف وبنطلون أسود جالسة على أريكة. كانت لها عينان زرقاوان واسعتان ووجه مستطيل انسدل شعرها الأسود الناعم حوله، وفم ممتلئ شهوانى. قال لها وهو يلوح بالبطاقتين: تعالى معنا. احمر وجهها وقالت إنها سبقتنا إلى الصعود. تقدم منها وجلس إلى جوارها وأخذ منها سيجارة. تطلع إلينا المارة والجالسون. جلست على مقعد آخر إلى جوار فتاتين. عرضت عليهما الصعود بالبطاقتين فقالتا إنهما تخافان. وضحكتا فى خجل. سألتنى إحداهما عن بلدينا. كانتا تتطلعان طول الوقت إلى هانز. صعد مع الفتاة. دارا فى الجو وهما يصرخان ويضحكان. ثم نزلا. وتأبطت ذراعه. ثم أنزلت ذراعها وسارت إلى جواره.

ذهبنا إلى لعبة الصناديق المستطيلة التى تدور بسرعة وهى ترتفع تدريجيا. أردنا أن نشترى بطاقات فألفينا الشباك مغلقاً. قال لنا أحد العاملين إن اللعبة مازال أمامها ساعة أخرى أما موعد موظف الشباك فقد انتهى. أخذونا من غير بطاقات. صعدنا فى الصناديق ورقدنا على ظهورنا نتأمل السماء. عندما نزلنا وضعت يدها فى ذراع هانز. ركبنا الباص وجلست هى بجوار شخص. سألها عنى. قالت له إنى عربى. همس لى هانز: عرفت من لهجتك أنك عربى دون أن أقول لها، لابد أنها خبيرة، وهى تعمل فى حانوت ومتزوجة. تركتهما إلى منزلى. هاجمنى صداع رهيب طول الليل. كنت أترقبه وهو يمسك بعينى ثم ينتقل إلى أعلى ثم يهبط أخيراً إلى مؤخرة عنقى. أيقظت العجوز فأعطتنى ورقة بمسحوق مسَكِن.




(40)

قالت العجوز: اليوم أحد والشمس ساطعة، ألن تخرج؟ قلت: لا أريد. قالت: أنت مثلى تعبت من الحياة. شربت الشاى وأنا أفكر فى وجه فتاة المعرض. العينان الواسعتان الزرقاوان، الوجه الذى يحيط به الشعر الناعم، الشفتان الشهوانيتان. قرأت قصة حياة سرفانتس. هى نفسها تقريبا مغامرات دون كيخوتة. عانى فى مطلع حياته من حالة عصابية مرتبطة بالتدين الشديد.
خرجت إلى السينما المجاورة. فيلم الطيور الحرة. بلغارى عن المراهقة. تدافعت الدموع إلى عينى فى مشهد المرأة والمراهق وهو يتطلع إلى ساقيها.

جاءت مادلين فى تاكسى متأخرة. استقبلتها العجوز مرحبة. عندما انفردنا قلت: أنت تستحقين الضرب. خلعت ملابسها وقالت: ستضربنى؟ كانت رقيقة نظيفة بلا رائحة. قالت: هل تحبنى قليلاً؟ أدخلته بعد مجهود. جئت بهزة شاملة فى كل جسمى. رفعت يدها إلى أذنها. أطريت الحلق المثبت فيها. قالت إنه حلق ماريو.




(41)

أعطانى هانز عدداً قديماً من ليتراتورنايا جازيتا، الجريدة الأدبية، به مجموعة قصائد للشاعر المتمرد يوفتوشنكو، تحت عنوان «قصائد من قارة الأمل». قال إن السلطة رضت عنه أخيراً أو هو رضى عنها فقد عينته مراسلاً أدبياً خاصاً للصحيفة وصار يقضى فى أمريكا اللاتينية عدة أشهر فى السنة متنقلاً بين بلادها.

(42)

كان المطر يهطل بصورة مستمرة والحجرة باردة لأن التدفئة مغلقة كالعهد بها فى هذا الوقت من العام. رفعت المصباح المتحرك إلى أعلى ليضىء السقف حتى تعرف زويا بوجودى لو فكرت فى زيارتى. بعد ساعتين أطفأت النور ورقدت. تغطيت جيداً وتقلبت عدة مرات للتكيف مع مرتفعات الأريكة ومنخفضاتها. حلمت أحلاماً مضطربة بأبى. رأيته حياً لأول مرة، أنيقاً، ذاهباً إلى امرأة فى أوروبا. تركت له ورقة أطلب منه فيها أن يحضر لى أكبر مجموعة ممكنة من الروايات البوليسية.

فتحت العجوز الباب علىّ فى الصباح الباكر. نهرتها فقالت إنها خشيت أن أكون قد غادرت دون أن أدفع الإيجار والكهرباء. وإنها سبق أن وجدت أحد سكانها فى الصباح نائماً ورأسه فوق حقيبته وغادرها دون أن يدفع ما عليه. قلت بحدة: كان يمكن أن تنتظرى حتى أستيقظ. صاحت إنها حرة وانها تريد أن تتنفس. ثم دخلت الغرفة وفتحت خزانتها الحقيرة وأخذت تحصى ما بها من أطباق قديمة متآكلة.

(43)

تناولنا العشاء فى مطعم: أنا وهانز ومادلين وإيزادورا التى ذكرت أنها افترقت عن صديقها البرازيلى. التقينا مرة أخرى بعد يومين فى العاشرة مساء وذهبنا مباشرة إلى غرفتى. استقبلتنا العجوز باسمة. قلت لها إن صديقى سيبيتانى معى فأعطتنى وسادة وبطانيتين إضافيتين. بسطت بطانية على الأرض فى طرف الحجرة لهانز وإيزادورا ونمت أنا ومادلين فوق الأريكة.

أنصت إلى الأصوات الصادرة من الأرض. ثم أعلنت مازحاً أنى سأنضم إليهما ونهضت جالساً. أمسكتنى مادلين من ذراعى وأوشكت أن تبكى. حذرتنى إيزادورا من الاقتراب. بدت واجمة فى الصباح وظهر نوع من الخجل على وجه هانز. لم تكن العجوز موجودة. ووقفنا أنا وهو فى المطبخ نعد الإفطار. قال لى هامساً: لقد هزتنى وأنا نائم معها قائلة إن هذا ليس بجنس. أضاف: كانت تجربتى الجنسية ناقصة حتى التقيتها، الألمانية والروسية تستقبلان منح الرجال الجنسية بالشكر والرضاء، الأمريكية اللاتينية تكاد تمزقك إذا لم تلتذ، وتقول ببساطة: لم أشبع.

(44)

انتقلت زويا من منزل أمها إلى الأبشجيتى بعد سفر زوجها إلى معسكره. احتفلنا بعيد ميلادها. كانت بمفردها عندما ذهبت إليها لأهديها سوارا فرعونيا. روت لى كيف حاول الأذربيجانى اغتصابها وهو يصيح إنها تقدم نفسها بسهولة دائما لهانز. وعندما أرادت أن تطرده ضربها فتصدت ريتا لحمايتها فضربها هى الأخرى. أعربت عن أسفى فقالت إنها متأكدة أننى أحبها. كانت ثملة قليلاً ووجهها أحمر وشعرت برغبة شديدة فى احتضانها وتقبيلها. وضعت يدى على رأسها وتحسست شعرها من أعلى إلى أسفل. قالت إنها لم تعد تحب هانز لأنها أدركت أنه لا يحتاج إليها. وإنه غضب عندما تأخرت عن موعده واتهمها بأنها كانت مع الطالب السكير فلاديمير.




(45)

بدت العجوز فى حالة معنوية طيبة. قالت إن الدور جاءها للحصول على مسكن أفضل وعلىّ أن أستعد للمغادرة. كانت جالسة فى مقعدها بجوار البوتاجاز. مازحتها فقطبت جبينها قائلة إن رأسها مشغول لأنها تخطط!

كانت مادلين قد وعدتنى بالمجىء فى الواحدة ظهرًا. خرجت بدون الشابكا، واشتريت لحما وبيرة ورتبت الحجرة.. ظللت أنتظرها حتى الرابعة. وكانت زويا قد وعدتنى أمس الأول أن تمر علىّ بالليل. جلست أعمل وأنا أتطلع من النافذة فى انتظارها. لكنها لم تأت هى الأخرى. ما زالت البروستاتا تؤلمنى كلما تهيجت.

(46)

ذهبت إلى الأبشجيتى لأحضر بعض الصحف. التقيت هانز. سألنى إذا كانت زويا قد زارتنى فى منزلى.
اتصلت بمادلين ودعوتها للحضور. أعددت السلاطة وفتحت زجاجة نبيذ أحمر بلغارى. أدرت أسطوانة «احتفال بهيج» لرمسكى كورساكوف. موسيقى منعشة ذات إيقاع متوتر لطبل يبدأ خافتا بطيئا ويتصاعد إلى قمة من الفرح بعد أن تتداخل معه الآلات والنغمات الشرقية. جاءت هذه المرة لكنها لم تكن متحمسة للمضاجعة. قالت لى وهى تنظر إلىّ بخبث: لقد أجريت عملية إجهاض. تطلعت إليها مذهولاً. سألتها: لماذا لم تخبرينى؟ قالت: لأنك لم تكن السبب. قلت: من كان إذن؟ قالت: ماريو. انتظرت رد فعلاً منى لكنى لزمت الصمت. قالت إن إحدى زميلاتها الروسيات أخذتها سراً إلى مسكن غامض لإجراء عملية الإجهاض، وكان فراش العمليات فى الصالة، وبعد أيام تعرضت لنزيف فذهبت وحدها إلى المكان نفسه، وفوجئت باختفاء الفراش وبأن الصالة امتلأت بأثاث عادى.

تعجبت. قالت: هناك عصابات تقوم بعمليات الإجهاض سراً فهو مسموح به فقط فى المستشفيات وكثيرات لا يستطعن الذهاب إلى هناك كى لا يتم إبلاغ الأهل ومكان العمل. ولو علمت مديرة معهدها بالأمر لأعادوها إلى بلدها. أحاطتنى بذراعيها. قالت: ألن تضربنى؟ حكت نفسها على ساقى ثم جاءت بقوة.




(47)

زارتنى زويا فى التاسعة مساء. بدت متعبة. شكرتنى مرة أخرى على السوار وقبلتنى فى وجنتى. دعكت جبينها بإصبعها لتزيل ما عليه من غبار. عرضت عليها ان تشرب نبيذا أو فودكا. ظهر على وجهها تعبير ماكر وأزاحت خصلة شعرها إلى خلف أذنها. سألتنى: لماذا؟ كنت أتحرك طول الوقت واقفاً أو جالساً، وهى منتبهة لكل حركة تبدر منى كأنها تتوقع شيئاً. ساعدتها فى مراجعة دروس اللغة الإنجليزية. فى منتصف الليل أعلنت رغبتها فى الانصراف. قلت: الوقت متأخر. سأوصلك. أين ستبيتين؟ قالت: فى الأبشجيتى. قلت: مفتوحة؟ قالت: سأتمكن من الدخول. قلت: إذا لم تتمكنى تعالى هنا. رافقتها حتى المصعد. كانت تراقبنى بركن عينها ومنتبهة لكل حركة منى كأنها تتوقع أن أحتضنها فى أى لحظة.

(48)

تلفنت مادلين فى الساعة السادسة كما طلبت منها. قالت: أنا أعلم أنك لا تريد أن ترانى لأنى لست مفيدة الآن بعد الجراحة. اتفقنا على اللقاء أمام البلشوى. ذهبت معها إلى منزل عبدالحكيم. لم تكن زوجته قد عادت من أوكرانيا. وشممت رائحة مشاكل بينهما. سهرنا معه هو وزميلة له فى العمل ذات شفتين غليظتين وتدعى إيما وفتاة طويلة تجيد الإنجليزية لا تكف عن الكلام السريع اللاهث تدعى لاريسا سبق أن تعرفت بها فى إحدى مكتبات القاهرة.

أخذنى عبدالحكيم إلى المطبخ وحذرنى من أن إيما لها علاقة بالـ ك ج ب، المخابرات. قال إن القذافى أعلن تأميم شركة أمريكية للبترول والاعتراف بجمهورية ألمانيا الشرقية. تحدثنا بسخرية عن النظرية الثالثة التى يدعو إليها ضد الرأسمالية وضد من أسماهم بالشيوعيين الرجعيين الذين يتمسكون بقوالب جامدة من الماضى. عندما سكرنا اقترح لعبة تختار فيها كل فتاة رقماً يرمز لأحدنا وتنتهى بأن تنفرد بالفائز. فزت مرتين. أخذت إيما إلى المطبخ وقبلتها.

بادلتنى قبلات الفم بحماس وضغطت عليها بساقى. ثم فعلت المثل مع لاريسا التى عاتبتنى لأنى لم أتصل بها منذ التقينا آخر مرة. عدنا إلى الصالة واقترحت ضاحكا أن نمارس الجنس الجماعى. ضحكنا جميعاً لكن مادلين انزعجت واختفت فى الحمام. ثم انصرفت الفتيات. قضيت الليلة مع مادلين فوق أريكة الصالة. شممت رائحة كريهة بمجرد أن رقدت إلى جوارها. اعترفت بأنها لم تغتسل بعد التواليت لأنها لم تعثر على ورق. قلت: ألم تكن هناك مياه؟ قالت: أجل. هناك زجاجة ولكنى لا أعرف كيف أستخدمها كما تفعلون. أعطيتها ظهرى ونمت.

(49)

تلفنت لـ لاريسا فردت علىّ أمها. قالت بصوت واهن إن ابنتها حدثتها عنى. وطلبت منى أن أعنى بها. أعطت لها السماعة فتواعدنا على اللقاء فى وسط المدينة. جاءت متأخرة ثلث ساعة بعد أن أوشكت على الانصراف. تذكرت أنها كانت تفعل ذلك دائماً فى القاهرة وتحتج بأنها مراقبة بواسطة السفارة. كانت فى جوب كاروهات قصير أحمر اللون كشف عن ساقين جميلتين، وردفين ممتلئين وخصر ضيق. مشينا فى بروسبكت كالينين. قالت لاهثة: إلى أين؟.

قلت: نشترى طعاماً ونذهب إلى مسكنى. قالت: حدثنى عن العجوز، عندما قلت فى التليفون إنك استأجرت غرفة مع عجوز أردت ان أعرف أى نوع هى من العواجيز. قالت بعد برهة: أليس من الأفضل أن نذهب إلى مكان ما، مقهى أو مطعم؟ ملت إلى الفكرة. طعام جيد وشراب لكنها ستصدع رأسى بحديثها وبعد ذلك يكون الوقت متأخراً للذهاب إلى غرفتى، وأكون خسرت بين 10 و12 روبل. قلت: كما تحبين، سنرى. قالت: أتذكر آخر مرة التقينا وتعشينا ثم رفضت أن توصلنى؟ قلت: السبب إننى كنت قد أنفقت الروبيلات العشر التى فى جيبى.

دخلنا فى حديث طويل عن الصحة وأمراض النفس والجنس: السلوك البدائى والمرأة الباردة وليدى شاترلى وقشرة الحضارة التى تجعل اللقاء الجنسى صعبا ومعقدا والرجل الذى يتنقل كثيرا بين النساء. قلت إنه إما يبحث عن صورة مثالية فى رأسه أو لديه ميول مثلية. قالت إن الحب عملية ارتقاء وتهذيب للقاء الجسدى، إنه الهدف الأسمى للشيوعية. سألتها عن صديقها الأرمنى. قالت إنها قطعت علاقتها به لأنه مستبد ويريد من المرأة ان تكون تابعة له.

قلت: ولم لا؟.. إذا كانت العلاقة ناجحة جنسيا. قالت: بالضبط، ولكنها غير ناحجة بسبب أنانيته. فهو لا يهتم بغير متعته الشخصية. سألتها عن صديقتها أولجا التى تعرفت بها أيضاً فى القاهرة. وكانت ضئيلة الحجم شاحبة الوجه عاديته. ومع ذلك أحاط بها الشبان المصريون طول الوقت. قالت لاريسا إن أولجا منهارة منذ عودتها من مصر. لا أحد يأخذها إلى أى مكان ولا أحد يهتم بها وتقضى طول الوقت فى غرفتها نائمة. تذكرنا سفيتلانا صديقتها الأخرى. كانت رشيقة الجسم ذات صدر ناهد. وكانت تسير دائماً مرفوعة الرأس فى خيلاء فقد كانت جميلة. قالت: لن تتعرف عليها الآن، لقد تزوجت من روسى وأنجبت طفلين. وازداد وزنها كثيراً، وتبدو دائماً موشكة على البكاء لأن زوجها يضربها.

قالت: لنذهب إلى مطعم موسكفا لو كان معك نقود. سألتها: كم يكلف؟ قالت 10 أو 15 روبل. قلت لا أستطيع. اشتريت زجاجة نبيذ أحمر بلغارى ثمنها 180 كبيك وقطعة كلباسا محشية بالبيض وقطعة لحم بارد. ذهبنا إلى المنزل. قالت: ستوصلنى عندما أغادرك. قلت: لماذا؟ قالت بالانجلزية: هذا هو واجب الجنتلمان. قلت: هذا لا يعنينى. قالت لماذا؟ قلت: لا معنى لأن آخذك من أول المدينة إلى آخرها ثم أعود مرة أخرى، إننا جميعاً نعمل فى الصباح. فقالت إنها قضية أساسية. ثم قالت: إذن لن أبق عندك طويلاً. سأنصرف قبل العاشرة. قلت: كما تشائين.

مررت بالأبشجيتى فأخذت الأغطية الجديدة وذهبنا إلى المنزل. كانت العجوز فى المطبخ مع أخرى ذات عوينات. أعددت المائدة وأنا أتحاشى الذهاب إلى المطبخ. ثم وضعت قطعتى لحم فى طبق من أطباقها القديمة وأخذته لهما فسرت العجوز. وقالت صديقتها: هل لديك ما يشرب؟ ملأت لها كأسا. عدت إلىلاريسا وبدأنا نأكل ونشرب. جاءت العجوز وقالت إنها ستطرد صديقتها وتنام. وأغلقت الباب علينا. قالت لاريسا إنها تكره هاته العواجيز، وإن العجوز كالكلب الذى تطعمه فيسكت، وإن أبيها هكذا دنىء، يغلق النوافذ ويسأل عن الأشياء الموضوعة لماذا هنا ولماذا هناك، وحش. سألتها عن مهنته. قالت إنه من علماء البحار الكبار، دائماً خارج البلاد ويأتى ليحبّل أمها ويتركها تعنى بثمانية أطفال، دمر حياتها. قلت: كيف؟ قالت: لم تحصل على إشباع جنسى ولأنها متدينة لم تتمكن من إقامة علاقة مع أحد غيره. قالت إنها مرتبطة بأمها جداً وتكره أباها وتتمنى موته.

انتهينا من الأكل فقالت إنها ستذهب. قلت لها: الأفضل أن تبقى وتقضى الليلة معى، وهناك احتمال كبير ألا يحدث بيننا شىء. لم تعارض وقالت إن أمها تنتظرها. نزلنا نتلفن لها من الكشك. دللت أمها: ماموشكا، سأقضى الليلة عند صديقتى، كيف حالك؟ أنصتت برهة ثم قالت: أهو بابا مرة أخرى؟

صعدنا من جديد. أغلقت باب الحجرة ودخلت الحمام وخلعت ملابسى. فتحت العجوز الباب وكانت فى قميص داخلى بال. قالت بصوت مرتفع: هل ستبقيها هنا الليلة؟ قلت: لم أفهم. قالت بلهجة غاضبة: سأروى كل شىء لصديقتك.

استلقينا على الأريكة بعد انصرافها. خلعت ملابسها. وجدتها مبللة جداً فدخلتها بسهولة وانتهيت بسرعة. وما لبثت أن نمت وفى فمى طعم شفتيها المدهنتين. شعرت بأصابعها تتحسسنى لتدب فىّ الحياة دون نتيجة. وفى الصباح عاودت المحاولة بأصابعها دون جدوى. استحممت وارتديت ملابسى بينما كانت تتمعن فى تفاصيل جسمها العارى فى إعجاب غريب. اتخذت أوضاعاً مختلفة وسألتنى عن رأيى فى جسمها. قلت إنه جميل.

أوصلتها فى الباص إلى محطة المترو. وسألتنى إذا كنت أستطيع أنا أو أصدقائى أن نشترى لها بطاقات للكونسرت الأمريكى. وعدت بالاتصال بها وأنا واثق أنى لن أفعل.

(50)

حان موعد مغادرة منزل العجوز والعودة إلى الأبشجيتى. توقعت معركة معها: أن تسرق منى شيئا أو تتهمنى بسرقة شىء، أو تحاول ابتزاز نقود. على الأقل بحجة غطاء المائدة البلاستيكى الذى تمزق منى. لكنها لم تفعل أى شىء من هذا ولم تدقق حتى فى ما حملته معى من أشياء. طلبت 50 كبيكا ثمن النور وكان يمكن أن تطلب روبلا كاملا. ودعتها فقالت إنها آسفة لذهابى وإنى شخص جيد. انتقلت إلى حجرتى السابقة فى الأبشجيتى. رحب بى الطالب الروسى. كان متين البناء حليق شعر الرأس على النمط العسكرى. ولم يكن ماريو موجودا.



(51)

عادت زويا إلى المستشفى وزرناها أنا وهانز. وجهت كل اهتمامها إليه. قالت إنها تتمنى أن يزورها أحدنا مرة ويصحبها فى جولة خارج المستشفى كما فعل زوجها. بعد أن تركناها تمشينا فى ظل أشعة الشمس الغاربة. كان الجو رائعا ذكرنى بشتاء القاهرة. قال إن فريد وحامد انتقلا من الأبشجيتى إلى مسكن خاص وأصبح بمفرده وعرض أن أسكن معه. قال: عندنا مكتبان، واحد لكل منا. وافقت.

نقلت حاجياتى إلى غرفته. اتخذت لنفسى الفراش على يسار النافذة. وأزلنا الفراش الثالث ووضعناه فوق الخزانة الخشبية. واتفقنا على توحيد نفقاتنا واقتسامها. التقيت ماريو فى الكوريدور. هبطنا سويا إلى الكافيتريا. بدا محرجاً وتكلمت معه بصورة عادية. وقفنا فى الطابور. قال فجأة إن مادلين تحبنا نحن الاثنين فكل منا يشبع شيئاً فيها. هو يشبه أخاها وأنا أشبه أباها.

(52)
جاء هانز ساخطا فى منتصف الليل. كانت المعلمة تاتيانا وهى شقراء أربعينية وبدينة بعوينات، قد دعته إلى منزلها فى الساعة الرابعة قائلة إنها أعدت بطتين بالطريقة الروسية. تأخر عليها لأنه كان على موعد مع إيزادورا. وذهب إليها فى الساعة العاشرة. وجدها جالسة أمام الطعام البارد تنتظر مع ومدعوين آخرين. قال لى: كأنما أنا شخص مهم جداً، ويتوقف كل شىء على وجودى، والنتيجة أن العزومة باظت ولزمت المعلمة الصمت غاضبة فانصرفت بعد قليل. قلت: كان يجب زيارة زويا. قال إنه لا يشعر برغبة فى رؤيتها.




(53)

ذهبت إلى السفارة المصرية فى شارع خليبنى لأملأ بعض الأوراق الرسمية. استقبلنى شخص طويل القامة وتجاهلنى بعض الوقت. وجه اهتمامه إلى خارطة كبيرة على الحائط للاتحاد السوفييتى وأخذ يبحت عن نقطة بها. قال بعد لحظة: لقد تخلوا عنا. قلت: غير صحيح، ما هو المطلوب منهم أكثر من إعادة بناء الجيش المصرى؟ قال: لا يريدون أن نحارب لنستخلص أرضنا. قلت إنهم لا يريدوننا أن نغامر بحرب لم نستعد لها جيداً، ثم إن سجلنا فى الحرب غير مقنع. تطلع إلى طويلا دون أن يرد.

أثناء عودتى فى المترو لحظت امرأة قوية الجسم ذات صدر رائع وبشرة لوحتها الشمس، وصلت رغبتى فيها إلى مشارف البكاء. رأيت امرأة أخرى ذات مؤخرة بارزة حشرت نفسها فى الزحام ورفضت أن تجلس فى مكان خال. فى إصبعها خاتم زواج. تبعتها عندما غادرت المركبة. أدركت أنها تبحث عمن يحتك بها. أسرعت إلى زحام أسفل السلم الكهربائى وأنا خلفها. نزلت إلى المترو السفلى واستقلته وهى تتطلع حولها فى ضيق ثم اتجهت إلى باب الهبوط حيث احتشد عدد من الركاب.

(54)
رتب هانز الحجرة وأعددنا عشاء. زارنا شريف وحميد السوريان حاملين زجاجة فودكا احتفالا بتخرج فريد. ذكر شريف أن القذافى أعلن عزمه على الاعتكاف فى خلوة. وأن البكر ممثلاً لحزب البعث العراقى وقع مع عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعى ميثاقا للعمل الوطنى ولقواعد العمل فى الجبهة الوطنية والتقدمية. قال حميد إنهم سيستغلون الاتفاق لجمع أكبر معلومات ممكنة عن الشيوعيين ثم يقضون عليهم. حكى شريف عن فتاته مارينا التى تجرى عمليات الإجهاض لنفسها لأنها لا تحمل تصريح إقامة فى موسكو فلا تستطيع الالتجاء إلى مستشفى وليس أمامها غير الجراحة السرية التى تحتاج إلى نقود.

قال إنها تستخدم أنبوبا ليمتص الدم، وإنه استيقظ مرة فرآها زرقاء الوجه. وقال حميد إنه مرة طلب من صديقته أن تغادر الغرفة ليستقبل فتاة أخرى فرفضت وهددت بالانتحار فقال لها: هيا انتحرى، دخلت الحمام وجلس يشرب فودكا، مر ربع ساعة وبعد نصف ساعة خرجت شاحبة من الحمام وقالت إنها ستموت وارتمت فوق الفراش، طلب لها الإسعاف، جاءت طبيبة وممرضة وسائق، أسعفوها ثم جلسوا جميعا يشربون الفودكا ويثرثرون.

وقال إنه سيسافر إلى دمشق لأنه لا يستطيع الحياة دون أن يرى زوجته وابنته. أرانا صورهما. انضمت إلينا إيرما صديقة فريد بعينين دامعتين. انصرفوا بعد أن أوشكت زجاجة الفودكا على الانتهاء. وبينما كنت أرتب المائدة جاءت هند. قالت إنها التقت شريف وحميد على السلم وإنها تعرف ما يقولانه عنها بسبب علاقتها بالطالب الروسى. سألتها إذا كانت تحبه. قالت: لا أعرف. قلت: يمكنك أن تعرفى من العلاقة الجسدية. قالت: ظروف المكان لا تسمح، أنا فى غرفة وهو فى أخرى، لا أتصور شكلا آخر للرقاد أثناء ممارسة الجنس غير أن أنام على ظهرى وأرفع ركبى، هناك طبعا أشكال أخرى كثيرة لا نستطيع استكشافها لأننا نادرا ما ننفرد بأنفسنا.

(55)

كنت بمفردى أعمل عندما طرقت فيرا باب الغرفة. فتحت لها وأنا أتأمل ساقيها السمراوين العاريتين فى المينى جوب القصير. وكنت أتابعها بنظرى دائما وهى رائحة غادية فى المينى جوب. اقترضت منى روبلا. احتضنتها فى تردد وهى خارجة وعندما عادت بالروبل كان روج شفتيها ممسوحا، ربما من قبلة. صحبتها إلى الكوريدور. وعاودتنى آلام البروستاتا. قضيت النهار فى الحجرة. كتبت على الآلة قليلا كعادتى. ثم شعرت بالتعب. شربت زجاجة بيرة. ثم قمت وأعددت بيضا بالبصل. شاركنى هانز الطعام. غذاء لى وإفطار له. حكى لى عن بعض تجاربه النسائية وكيف ركعت فتاتان تحت قدميه طالبتين منه أن ينام معهما ورجته إحداهما أن ينام مع الأخرى لأنها تتمزق من الرغبة. انصاع لها وتمدد على الفراش وقال لها اخلعى ملابسك وتمشى. أذعنت وتمشت ثم جاءت ورقدت فوقه. وقام شاعرا بالقرف وجعلها تغسله ثم انصرف.

قال إنها حدثته عن استخدام المرأة الروسية محشى بالكاشا الساخنة لإجراء الإجهاض. قال إنه التقى الطالبة ابنة الوزير, جاءته فى سيارة خاصة مزودة باللاسلكى وقالت عن أبيها إنه جحش لا يفهم شيئاً. وإن أبويها زوجوها بسرعة وأعطوها شقة فى شارع ديمتروف حيث يسكن الحكام. روى لى كيف كان نائما وجاءت زويا توقظه. وكيف تطلع إليها لا مباليا وهى جالسة على حافة فراشه. ثم كيف شعر برغبة شديدة فيها. ومدت يدها تتحسسه وهو راقد يتأملها ويداه خلف رأسه. وطلب منها أن تبلله بلعابها. ثم مضت إلى سلة المهملات بجوار الباب فمسحتها فى جانبه. وفتح الباب ليدخل توماس الأفريقى. مد يده ليصافحها قائلا: هالو زويا، فقدمت إليه يدها.



(56)

قال إريك الكازاخى إن المعلمة تاتيانا تدعو هانز للعشاء فى الساعة الثامنة مساء. وطلب منه أن يأخذ معه زجاجة خمر. تلفن هانز لها وسألها إن كان يستطيع إحضار صديق معه. جاء عدنان العراقى حاملاً صندوق الطاولة. أصر أن نلعب معاً قائلاً إننا لن نراه بعد الآن لأنه سيعود إلى العراق نهائيا خلال أيام. وخرج هانز يبحث عن خمر فى البريوسكا. ثم التقينا أمام منزل تاتيانا. وكان الكازاخى فى انظارنا. أتتنا رائحة البول والقىء ونحن نصعد الدرج.

مررنا بأبواب الشقق المغلفة بالجلد السميك. استقبلتنا تاتيانا متأنقة وقد أحاطت عينيها بخط أزرق اللون، كانت أسنانها رمادية كأغلب الروس.. قدمتنا إلى ضيوفها: فلوديا ذى القميص الحريرى المشجر والبنطلون الشارلستون وزميله فالنتين الضخم ذى الشوارب الذى كان يعبث بترانزستور روسى قديم كالدبابة الصغيرة، لودا ذات الشفايف الناعمة والجسم الممتلئ التى جلست إلى جوار فلوديا وساوت له شعر رأسه بأصابعها ثم قبلته فى وجنته.

أحضرت تاتيانا الطعام وبدت سعيدة. شربنا نبيذا أبيض ولحظت أن تعبيرا من التعالى والعداء ظهر على وجه هانز عندما قال فولوديا: أكد لى كثيرون أنى أشبه الفرنسيين. أشاحت لودا بوجهها خجلا. قال إنها هى التى ذكرت له ذلك. قالت تاتيانا بفخر وهى تشير إلى زجاجة الروم إن هانز قضى اليوم كله بين محلات البريوسكا بحثا عن ويسكى ولم يجد غير الأنبذة والمشروبات الروسية وهذا الروم الكوبى.

انضم إلينا بوريس سكرتير الكومسومول، منظمة الشبيبة، فى الأورال. تلفنت صديقة إريك معتذرة بسبب ذهابها إلى المسرح. وضع بوريس وسادة فوق التليفون. استفسرت من هانز همسا عن السبب. قال: للتشويش على أى عملية تسجيل، ففى مثل هذه السهرات تنطلق الألسنة.. سمعت هانز يقول للودا: أنا هنا أتحكم فى كل شىء. ردت عليه فى تحد: ليس كل شىء. تحدثت تاتيانا عن أبيها وقالت إنه فى كل مرة يشاهد فيلما حربيا يقول إنه فيلم جيد لكن الحرب لم تكن كذلك. تناولت ذراعى مقترحة أن نشرب معا نخب الأخوة. شبكت ذراعينا وتبادلنا القبلات. أزاحت المائدة لنرقص. رقص فلوديا مع لودا ثم اختفيا فى الحجرة الداخلية.

وظهرا بعد نصف ساعة. بدا عليها شىء من التعب أو الاكتئاب. ولمحتها تختلس النظرات لهانز. قال لها: اذهبى معى إلى الأبشجيتى وباتى هناك. قالت إنها تود ذلك لكنها لن تفعل. رفض فالنتين الرقص، وقال: إما روك آند رول وإلا فلا. بدأ بوريس يكشف عن شخصية مرحة. رقص مع لودا ورقصت مع تاتيانا. شعرت بجسم مترهل فى أجزاء كثيرة. قالت: يجب أن تأتى عندى فى عيد ميلادى، لقد شعرت بالراحة لك من أول نظرة. فهمت أن هذا جسر لهانز. قالت إنه لا يريد أن يحضر عيد ميلادها. تدخل هانز فى الحديث قائلا إنه مرتبط بفترة تدريب عملى. قالت إنها تستطيع التدخل لإعفائه منها.

سأل فالنتين لودا عن لون الملابس الداخلية الذى تفضله. قالت: الفيوليت. فنهض وتلفن لشخص وسأله عما إذا كانت لديه ملابس داخلية بنفسجية. خرج بوريس إلى البلكونة فتبعته. قال إنه يشعر بالملل بعد ثلاثة أيام فى موسكو ويريد العودة فورًا إلى زوجته وطفله. بدأنا نشرب الروم الكوبى بعد أن أعد إريك الثلج. وصنعت لودا قهوة احتسيناها بالماروجنا. همست لى تاتيانا إن لودا تبحث عن علاقة ثابتة. دفعت بعويناتها إلى الخلف وقالت: أنا أدرك أن هانز غير ثابت وفى أى لحظة يمكن أن يغير رأيه ثم أن الناستريينا، المزاج، عندى مختلفة.

قلت لبوريس بعد تعليق ساخر من جانبه: لو كان كل الشيوعيين مثلك لكان الأمر رائعا. أيدنى هانز. أثرت نقاشا حول الفارق بين الواقع ومشاكله وما يكتب فى الصحف والكتب. قال بوريس: الأعداءيتربصون بنا ولا يجوز أن نكشف لهم عيوبنا. قلت إنهم يعلمون عنكم أكثر مما تعلمون عن أنفسكم. قال إنه لا يستطيع أن يتحدث هكذا فى الأورال مع زملائه. سمعت تاتيانا تقول شيئاً عن طفلها فاستوضحتها. قالت: أقصد زوجى السابق.

قال فالنتين وهو يمسح شاربه بأصابعه: أنا أدير مصنعاً كبيراً للألبان تقدم له الدولة كل الإمكانيات. عندنا مصيف على البحر الأسود يذهب إليه كل عام آلاف العمال وعائلاتهم، المصنع هو حياتى. أعرف كل شبر منه، عندنا خمسة آلاف عامل أعرف أغلبهم بالاسم، وأعتنى بهم جيدا، أوفر لهم كفايتهم من الطعام فلدينا مزرعتان خارج موسكو ونبيع الفواكه والخضراوات بأسعار مدعمة، عندنا أيضا مساكن ومدرسة وملجأ للأيتام وناد رياضى وقصر ثقافة. قال إنه مضطر للانصراف لأنه سيستيقظ مبكرا. أضاف ضاحكا: المصنع الآن فى مرحلة السخونة. استفسرت عما يقصد فقال إن العمل يمر بثلاث فترات: الأولى عقب توزيع الأجور يكون فيها العمال منهكين من الفودكا وفى الثانية يبدأ جو العمل فى التسخين. وفى الثالثة قرب نهاية الشهر يلهث العمال لإنجاز الخطة ويكون الإنتاج مليئاً بالعيوب.

انصرف فلوديا ولودا وفالنتين. وكشفت تاتيانا عن ضيقها بهم. قالت إنها لا تعرف سوى لودا من شهر ونصف. وإنها مهندسة تعرفت بفلوديا منذ أسبوع ولا تعرف مهنته. إنها تعتقد أنه من رجال العصابات فهناك وشم كثير على ذراعيه. انسحبت فى الساعة الثانية تاركا هانز. طلبت منى تاتيانا أن أتلفن لها فى الغد لنخرج مع صديقة لها. غادرت المنزل إلى محطة المترو. وقفت خارجها أنتظر تاكسياً. الجو صيفى رائع. وأنا منتش ومنتبه تماما. انضم إلىّ شاب ثمل قليلاً وامرأته. جاء التاكسى فأسرع إليه الشاب وفتح الباب الخلفى وأشار لى فى احترام مبالغ فيه أن أدخل. جلست المرأة بجوار السائق. طلب منى الثمل بعد قليل سيجارة.

أشعلتها له. تحولت إليه المرأة وقالت: لماذا لم تستأذن؟ ضحكنا. سألنى: هل تعرف ماياكوفسكى؟ قلت: الشاعر الذى انتحر. قال: اليوم تمر 80 سنة على ميلاده. ردد بعض أبيات من قصائده عن اللغة الروسية ولينين وعن الوطن: «انظر إلى أيها العالم واحسدنى، فلدى جواز سفر سوفييتى». عقب: الآن كل واحد يريد جوازا ليبرح.
وجدت باب الأبشجيتى مغلقا فطرقته عدة مرات. فتحته الديجورنايا وعنفتنى. صعدت فى بطء إلى غرفتى. غسلت جوربى ونمت.

فى الصباح كنت فى حالة معنوية جيدة. أكلت ثلاث بيضات وقطعة طماطم واستحممت. ثم شربت الشاى والقهوة. دخنت وأنا أفكر فى اليوم الذى سنقضيه مع تاتيانا وصديقتها. تلفنت لها فى الساعة الواحدة فردت على فى ضيق وبلهجة باردة. ذكرت اسمى وقلت: كاك ديلا، كيف الحال؟ قالت: لا بأس. سألت عن هانز فقالت إنه خرج الآن فقط لأنه مصاب بالتهاب فى الحلق. قلت سأنتظره لأعالجه. لم تذكر شيئاً عن مشروع النزهة فأنهيت المكالمة. عدت إلى الحجرة وانهمكت فى العمل.

قبل الظهر وصل هانز فى حال من الإعياء. جلس وقال إنه لا يدرى لماذا يفعل هذا. قلت: تفعل ماذا؟ قال إنه متقزز من نفسه وإنها أخذته إلى فراشها ورقد إلى جوارها ثم بدأ يرتعش وفقد رغبته فيها. قلت: لكنك فى البداية كنت تريدها. قال: لا أعرف. أحاط رأسه بيديه وبكى. صنعت قهوة وتحدثت عن الأم التى نريدها وفى نفس الوقت نشعر بالرعب لأنها محرمة علينا.

(57)

زارتنا جاليا صديقة عدنان تبحث عن مسافر إلى بغداد لتبعث إليه برسالة. كانت دقيقة الحجم ذات وجه دائم الابتسام، وغمازة فى ركن فمها. وكانت برفقة صديقة لها. أعجب هانز بالصديقة، ناتاشا. رأيت فى قدميها حذاء بكعب مرتفع وفقا للموضة. سألتها من أين حصلت عليه. قالت إنه إيطالى من الرينك. قلت: من أين؟ رددت مستاءة: نا رينك. قال لى هانز: تقصد السوق السرية، وليس له مكان محدد، لكن تجد فيه السلع التى يصعب العثور عليها مثل الطماطم أو لوفة اسفنجية أو شال من الموهير أو زوج من الإطارات اليابانية، والجوبات المينى من الجلد، والجوارب النسائية. أضافت جاليا: يمكنك أيضا أن تشترى كارتونة سجائر أمريكية بعشرين روبلا، وشكولاتة غربية وكتب قديمة.

دب فينا الحماس وأعددنا طعاما وخرج هانز يشترى بطيخة. قطعناها فطالعنا جوفها الأبيض. ووضعناها فى مياه باردة. قالت جاليا إن عدنان وعدها بأن يطهو لها طعاماً عربياً قبل سفره ولم يفعل. رفضتا احتساء الفودكا فى البداية ثم شربتا. أدرت الجرامفون واسطواناتى الغربية الثلاث اليتيمة. صفقت ناتاشا عندما تعرفت على أسطوانة «شيب». استمعت جاليا بحزن لأغنية لاف ستورى، قصة حب، وقالت إنها تذكرها بعدنان وإنها ستذهب إلى العراق. قالت لها ناتاشا: يجب أن تنسى. هزت رأسها رافضة وقالت إنها تريد كأسا خامسة خالية لأنها وعدت عدنان بذلك. قالت إنها كانت أخيراً فى سوتشى على البحر الأسود. سألتها ناتاشا: كيف ذهبت؟ قالت إنها فى البداية لم ترغب لأنها وعدت عدنان ألا تذهب بمفردها إلى أى مكان ثم غيرت رأيها فى آخر لحظة وقضت هناك عشرة أيام.

رقصت مع جاليا عدة مرات. ودب بيننا مرح. تابعتنا ناتاشا باهتمام. كان هانز عازفا عن الرقص وفى حالة خمول. اقترحت جاليا الذهاب إلى السينما. همس لى هانز أن ناتاشا تثيره. قال إنه وعد إيزادورا أمس بالذهاب اليها لأنه سيسافر قريبا. طرق الباب فتجاهلنا الطارق. بعد قليل نظرت من النافذة فلمحت إيزادورا منصرفة. أشفقت عليها أن تقطع كل هذه المسافة ثم لا نفتح لها. قلت لهانز فذكر أنه كان قد وعد بانتظارها. نزلنا إلى الغابة. سرنا أنا وجاليا فى المقدمة. سألتها كيف عرفت عدنان. قالت: فى الباص. جذبها من يدها طالبا التعرف بها فظنت أنه جورزينى، من مواطنى جورجيا. سألتها: متى كان ذلك؟ قالت: من أربعة شهور. لا.

خمسة. قالت إنها فى الواحدة والعشرين وسبق لها الزواج، ليس لها أم، تعيش بمفردها منذ سنتين. وترى أباها بين الحين والآخر، تريد أن تدرس اللغة الإنجليزية لمدة سنة لتلتحق بعد ذلك بمعهد المضيفات. سألتنى عن الحياة فى العراق. وهل هى جميلة حقا كما قال عدنان. قالت إن العمل فى الحانوت ممل، وإنهم يحتفظون بنوعين من الدفاتر، الأول يعرضونه على الدولة والثانى به البيانات الحقيقية. وقالت: نحن نتظاهر بأننا نعمل وهم يتظاهرون بأنهم يدفعون لنا أجورا. سألتها عن سعر الدولار فى السوق كما طلبت منى مادلين. قالت: ثلاث روبلات للدولار الواحد.

وضعناهما فى تاكسى. قالت جاليا: ألن توصلاننا؟ تجاهلنا الأمر. قال هانز بعد انصرافهما إن ناتاشا رفضت أن يقبلها. ثم تحدثت مع جاليا بصوت خافت وعندئد خفت مقاومتها. وقال إنه يشعر بالضيق وغير مستعد لأن يضيع الوقت معها لكن جسمها مثير.

(58)

سافر هانز إلى ألمانيا وصرت بمفردى. كما سافرحميد وفريد وأغلب السوريين. وبدأت الأبشجيتى تخلو من الطلاب بسبب العطلة الصيفية. البعض ذهب إلى أهله والآخرون إلى المراكز المخصصة للعطلات. تلفنت لـجاليا من التليفون العمومى فى مدخل الأبشجيتى. ردت بصوت حاد بارد. قلت بلغة متعثرة: صديقتك ناتاشا نست بطاقتها هنا وهى معى الآن، ماذا سنفعل؟ قالت: سنمر عليك غدا لنأخذها، كيف حال هانز؟ قلت لها إنه سافر. قالت: كلمنى من فضلك صباحا هنا أو بعد ذلك فى العمل والآن إلى اللقاء لأنى يجب أن أجرى. أعطتنى الحارسة بطاقة بريدية من مادلين. كانت تحمل صورة قديمة للعذراء الباكية.

وبها كلمة واحدة: أرجوك. صعدت السلم متثاقلا. التقيت دوبروفسكى برفقة زوجته. طويل القامة وبوسامة الأرستقراطيين وهى قصيرة بملامح أقرب إلى العاملات أو القرويات. كان يحمل زجاجة فودكا تحت إبطه. عرض على أن نشرب سوياً فاعتذرت. فتحت النافذة على مصراعيها لأخفف من درجة الحرارة. أعددت سلاطة وملأت كوبا من النبيذ. قرأت قليلاً فى كتاب «لعبة الأمم» لـ كوبلاند. ثم غسلت الأطباق، وأدرت أسطوانة «النزوة الإيطالية» واستلقيت على الفراش.

(59)

أوصلنا مادلين إلى المطار لتسافر إلى بلدها. كنا أنا وايزادورا وإحدى زميلاتها. ودعتنا باكية. لكم يكن ماريو معنا لأنه ذهب إلى معسكر العطلات فى الجنوب. ستلحق بها ايزادورا بعد أسبوع. ركبنا سويا إلى وسط المدينة. قالت لى إنها كانت تبكى طول الأسبوع فى التواليت بعد سفر هانز. وكذلك مادلين. ذهبنا إلى سينما تعرض فيلم دميانو دميانى تمثيل آلان دينون. جلسنا متجاورين ووضعت ذراعى خلف ظهر مقعدها. بعد لحظات داعبت أذنها فلم تعترض. واصلت تحسس أذنها دون أن تتحرك. وشعرت بها ترتعش. مالت على وهمست: أتذكر ليلة نمنا فى غرفتك؟ انصرفنا إلى متابعة الفيلم ثم أوصلتها إلى أبشجيتى معهدها.

استيقظت عدة مرات بالليل على صوت امرأة فى غرفة خليفة. صوت حاد مبتذل. تبينت أنه لزوجة دوبرفسكى الارستقراطى السكير. سرت بخطى ثقيلة إلى الحانوت لشراء سليفكا وخبز. لفتت نظرى فتاة رشيقة فى بلوفر أصفر ذى فتحات طولية فوق الساعدتبدأ من الكتف، وجوب أسود قصير، كشفا عن جسد لفحته الشمس. وأنا عائد التقيت خليفة ماضيا فى نشاط ليتبضع وقد حمل سيتكا، شبكة، من زجاجات البيرة الفارغة. تلفنت لجاليا كما اتفقنا فلم أجدها.


موضوعات متعلقة..

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة