ينشر"اليوم السابع" الفصل الرابع من رواية الكاتب الصحفى عبد الستار حتيتة "المشرحة"، الصادرة عن دار جداول للنشر ببيروت، ومن المقرر طرحها بمعرض القاهرة الدولى للكتاب.
وتدور هذه الرواية فى زمن دوّار، مفتوح على البدايات والنهايات، زمن نعيشه اليوم والأمس والغد.
وتجسد من خلال صراعات أبطالها ومصائرهم مع واقعهم الاجتماعى والسياسى، كيف تتحول الحرية إلى لعبة، يتحكم فى مساراتها وإيقاعها من يملك القوة والبطش، بينما يظل الأمل فى العدل والمساواة بين بنى البشر مجرد هاجس بعيد المنال.
لقد استطاع المؤلف أن يحوِّل زمن "المشرحة" الميت إلى واقع حى، تصطدم فيه أشواق وأحلام الجماعة البشرية بحواجز لا تنتهى، من النصب والاحتيال والفساد، و تبدُّل الأقنعة والأدوار، تحت شعارات أيديولوجية زائفة، تكرِّس لسياسة القطيع والقمع.. يتضافر كل هذا فى نسيج لغة حارة، واخزة تنفذ مباشرة إلى العمق، وفى "اسكتشات" سردية، يتقاطع فيها ما يطفو على السطح، بما يكمن وراء الألوان والظلال والفراغات.
وإلى النص:
عاش طايع سنوات مشردا بين قريته ودراسته فى الجامعة البعيدة فى العاصمة. وانقطعت موارد والده المالية بسبب شح المياه وغلاء البذور والأسمدة وبوار الزراعة.. رسب فى السنة الأولى، ثم رسب فى السنة التى بعدها.. أصبح يتوجب عليه أن يسلك طريقا من اثنين.. إما أن يتوقف عن ركوب القطار الذى ينقل الفقراء من قرى الشمال إلى المدينة الكبيرة صباح كل يوم، وينقطع نهائيا عن الدراسة، ويساعد أسرته بأى عمل من الأعمال الوضيعة فى قريته، مثل الزراعة التى لا تؤتى أكلها، أو جباية الأموال من القرويين لصالح الإدارة الحكومية هناك، نظير أجر لا يغنى ولا يسمن من جوع.. أو أن يقيم فى العاصمة إقامة دائمة بالقرب من الجامعة ويعتمد على ذاته فى إعالة نفسه ودراسته، حتى إذا تخرج يعود لقريته طبيبا يشار إليه بالبنان..
وانتهى طايع إلى الطريق الثانية.. أمضى أشهر يضرب خبطاً عشواء كالتائه فى أرجاء المدينة الكبيرة الصاخبة.. ينام على الأرصفة، وتحت تماثيل زعماء البلاد القدامى، ليلا.. ويشقى طوال النهار بحثا عن عمل. فى بعض الأيام يجود عليه من يجود بقطع من الخبز والفول.. يقضى حاجته ويغتسل ويرتوى فى دورات مياه المساجد.. وحين ينشط المحتجون فى تظاهراتهم عند المبانى الحكومية، أو حين تقوم جماعة من الجماعات الدينية المتشددة بعملية مسلحة ضد السلطات، يشن الأمن حملة واسعة لمطاردة الغرباء، وتلقى الشرطة القبض عليه وتعيده إلى قريته.. وبعد أسبوعين أو ثلاثة يعود من جديد إلى العاصمة، أكثر عزما وتصميما على البقاء فيها.
وما إن اقترب موعد بداية السنة الدراسية الجديدة حتى امتدت يد العناية، ووضعت فى طريقه شرطيا عجوزا من خدام المسئولين فى جنوب العاصمة.. كان يريد أن يبدو أمام رؤسائه الضباط أنه مازال شرطيا نافعا رغم كبر سنه، وأن لديه ما يقدمه لهم من شبان مخلصين فى تأدية أى عمل يطلب منهم، كما كان يفعل فى السابق.. ورأى فى عينى طايع، وهو محشور فى قسم الترحيلات، الحاجة ليد تمتد له لتنقذه من بؤسه بأى مقابل.. كان المقابل الوحيد الذى يراهن عليه الشرطى العجوز هو الطاعة.. كان شرطيا أشيب الشعر من أولئك الذين يحرصون على العمل فى خدمة الدولة برواتب زهيدة حتى مماتهم راضين، اعتقادا منهم أنهم يردون الجميل للسلطات من طول عهدهم بالعمل فى دهاليزها، وأملا فى استمرارها فى حمايتهم والذود عنهم إذا ما ضاقت بهم الدنيا.
سلَّم طايع يده للشرطى العجوز، ومرره هذا الأخير بدوره على إدارات الضواحى الجنوبية بمن فيها من ضباط ومسئولين منحرفين.. كل يوم يدخل به مكتب من المكاتب، إلى أن وصل به أخيرا إلى باب المشرحة حيث جرى توظيفه هناك بطريقة سلسة أبهرت طايع وغيرت نظرته للمدينة..
ولكى يطمئن الشرطى الأشيب على نجاح مهمته بحث لطايع على سكن رخيص وقريب من المشرحة، حتى عثر على شقة فى شارع النور المرعب.. ومن هناك كان طايع يتطلع من خلف ستائر شرفته فيرى أن الأهالى حين يسمعون صوت إيشى المخيف يهز البيوت من وراء جدران شقته، يتوقعون شرا.. تنتابهم حالة من الهلع، بيد أنه كانت بهم رغبة فى مشاهدة قتاله خصومه الأغراب عن الشارع، والمتمردين من أهل الشارع نفسه..
يتراجع طايع للخلف تاركا جيرانه يتجادلون بين جدران بيوتهم وهم يشيرون لزوجاتهم وأولادهم للإسراع بتحضير طعام العشاء وتجهيز الفراش لقضاء ليلة جديدة فى سلسة طويلة من الليالى المعتمة.
يتصادف أحيانا أن الأيام التى يقطع فيها إيشى الكهرباء، تأتى بعد كل احتجاج من تلك التى يقيمها المعارضون فى وسط العاصمة.. فى مثل هذه الليالي، وعلى ضوء الشموع ومشاعل النفط يتناقل سكان الشارع الأخبار نقلا عن أبنائهم من العاملين فى مشرحة الضاحية.
الرقيب عزت من السكان القلائل فى شارع النور الذى يسهر تحت ضوء قنديل يعمل بالنفط حتى الصباح. وينام النهار بطوله كأنه يهرب من ضوء الشمس. يفخر بابن عمه عبد السميع الوحيد الباقى من نسل أجداده وهو قصير بدين يعمل فى المشرحة ويسكن فى نهاية الشارع نفسه. ويشمئز منه أيضا لأنه يعلم أن يديه تقطر منهما دماء القتلى الذين شارك فى التوقيع على تقارير بأن أسباب موتهم كانت سكتات قلبية، ولأنه يعلم أيضا أن ابن عمه يشارك مع مجرمى الشوارع الخلفية فى حراسة محصلى أموال الحكومة والحصول على قسمة منها، داخل المشرحة، بالحرام.. يقول عبد السميع:
- "دخلت الجثة مشوهة.. اجتمع الضابط مع مدير المشرحة، وبعد ذلك جاء إيشى، واستعانوا باثنين من الموظفين، ووقعوا جميعا على تقرير يقول إن الوفاة كانت نتيجة هبوط مفاجئ فى الدورة الدموية تبعتها سكتة قلبية أدت للوفاة".
أما إذا كان الضحية من المشهورين أو الناشطين الذين تنشر صحف المعارضة صورهم فإن أكبر مسئول فى المشرحة هو من يقوم بالعملية بنفسه وسط حراسة أمنية تطوق المبنى كله ووسط حضور من كبار المسئولين بالضواحى الجنوبية..
فى هذه الحالة يبيّن العاملون فى المشرحة لأسرهم كيف تجرى الأمور. كان لعبد السميع طريقته الخاصة فى رواية آخر الأخبار:
- "دخل الطبيب الذى هو فى نفس الوقت مدير المشرحة نادر بك بمشارطه وسكاكينه على الجثة.. ثم عقف أصابعه كأنها مخالب غراب فأمسك بهذه الأدوات. قال لنا: اخرجوا.. نعم. لم يبق معه من العمال داخل غرفة التشريح غير الكناس طايع لأنه يدرس فى كلية الطب.. بينما ضابط المباحث يتبادل إشعال لفافات التبغ مع إيشى على مقاعد الانتظار فى الممشى الطويل الفاصل بين غرفة مكتب المدير وغرف التشريح المرصوص فيها جثث قادمة من ضواحى العاصمة.. ويقولون إن بعضها قادم من مدن أخرى مجاورة.. فى اليوم التالى جاءت جثة رجل مهم لأنه كان هناك ضباط ونواب كثيرون فى الغرف المكيفة بالمشرحة يدخنون ويجرون اتصالات هاتفية مهمة.. وكنا نحن نختبئ إلى أن يطلب يستدعينا المدير فنوقع على أوراق كثيرة. ثم يرسلوا هذه الأوراق إلى مقر النيابة".
يتجمع الجيران فى كل بيت من البيوت التى لها ابن يعمل فى المشرحة، عقب أى حادث من مثل هذه الحوادث.. وفى شقته التى تقع بالطابق الثالث فى مواجهة شقة طايع يعيش الرقيب عزت وحيدا. عاد من الحرب الأخيرة برجل واحدة وعين واحدة. وبعد أن مات ما تبقى من أقاربه أصبح له هدف واحد فى الحياة، أن يظل يدخن الشيشة حتى آخر يوم فى حياته.. كان يفعل هذا منذ ألقت به سيارة أجرة فى شارع النور الذى كان ما زال فى طور التشكل. إلا أن الأيام المديدة التى مازال يعيشها جعلته يتوهم أن الدخان يطيل من عمره، لا يقصره كما كان يظن ويأمل.
ومع أنه مجرد مستأجر للشقة، إلا إن أهل الشارع، بمن فيهم إيشى وزمرته، اعتادوا تعريف العمارة التى يوجد فيها بيته باسم عمارة الرقيب عزت. لا يأبهون لثوراته عليهم التى تحدث بين وقت وآخر.. كانوا يشفقون عليه باعتباره مجرد رجل عاجز يحتاج لمن يخدمه بعد أن رفضته كل البنات والمطلقات والأرامل اللائى عرض عليهن الجيران وشيخ المسجد الزواج منه.
فى الأيام التى لا تكون فيها حكايات جديدة عن القتلى الذين دخلوا حديثا للمشرحة، لا يجد عزت من يساعده فى إعداد الشيشة وإشعال الفحم ونقل الجمر من الموقد الكبير القديم فى المطبخ الضيق إلى حيث يجلس مادا رجله الوحيدة فى وسط الصالة.
فى هدوء الليل وانقطاع الكهرباء المعتاد يسمع طايع من الشرفة صوت عكاز الرقيب العاجز يضرب متحركا بين المطبخ والصالة بعينه الوحيدة. وبعد قليل يسمع كركرة الماء فى زجاج الشيشة حتى وقت متأخر من الليل. صمت وكركرة، وصمت وكركرة..
يستمر هذا إلى أن تأتى الأيام التى تكثر فيها مظاهرات المعارضين بوسط العاصمة، مثلما يحدث كل أسبوعين أو ثلاثة أمام مبنى البرلمان.. أو تحدث معارك فى الضواحى الفقيرة بين سكان متمردين من جانب ومجرمين يسيطرون عليها من جانب آخر، مثل سيطرة إيشى على شارع النور هنا، وافتعاله للمعارك مع كل من تظهر عليه علامات عدم الرضوخ أو عدم الخوف..
حين تقع مثل هذه الموجهات تبدأ أنباء عن وصول الجثث. ويختفى العمال من أهل الشارع العاملين فى المشرحة، ومعهم القروى طايع بطبيعة الحال، وإلى أن يفرغوا من أشغالهم التى تستمر ثلاثة أو أربعة أيام، يسلى السكان أنفسهم بالحكايات الصغيرة عن ذوى القتلى ومحامييهم الذين تجمعوا أمام مبنى المشرحة لتسلم جثث أبنائهم ومتابعة التقارير التى يوقع عليها أطباء المشرحة وموظفوها عن أسباب الوفاة. يفعل الأهالى ذلك وهم يتحرقون شوقا لمعرفة ما يحدث فى الداخل.
لكن الساعات تمر ويوم آخر يمر فيزيدون من صبرهم وهم يشغلون أنفسهم بأقاصيص خالية من الإثارة عما شهدوه أمام المشرحة من تجمهر وصياح وصراخ.. ويروون كيف وقف مئات الجنود شاهرين أسلحتهم لحماية المشرحة من الناس الغاضبين القادمين من وسط العاصمة ومن أقاليم أخرى بعيدة.
لم تكن مثل هذه الأحداث ذات أهمية.. فقط يقطعون بها الوقت إلى أن تهدأ مظاهرات وسط المدينة وتهدأ معارك السكاكين فى الضواحى الفقيرة.. حينها يرتاح عمال المشرحة عدة أيام حيث يعودون من أشغالهم مبكرا فيستحثهم الجيران للسهر فى بيوتهم لكى يعطوا حكايات مفصلة ومثيرة عن الموتى والقتلى.. حكايات من الرعب.
اعتاد جيران الرقيب عزت السهر فى شقته فى الليالى التى يكون عبد السميع فى صحبته. أى فى أيام هدوء العمل بالمشرحة.. وفى غير مواعيد وصول محصلى أموال الحكومة.. فى مثل هذه الأجواء يخيم السكون على البلاد.. وتشهد طوابير من الناس يتزاحمون فى صمت ومذلة أمام الإدارات الرسمية لإنهاء إجراءات تدور فى دوائر مفرغة ولا تنتهى إلا بشق الأنفس.. حيث فى كل إجراء جباية أموال جديدة.. مثل ملء استمارة البحث عن عمل أو استخراج شهادة ميلاد.. أو استخراج شهادة صحية.. أو استخراج رخصة ركوب دراجة.. أو استخراج تصريح للسفر بين المدن.. وهكذا. المهم هو أن عمال المشرحة أصبح لديهم وقت للسهر.. يدرك المحارب القديم عزت أن الحكايات الجديدة التى يحملها له ابن عمه تجلب معها الصحبة والمعسل والشاى والسكر.
يحدق الجيران الساهرون فى وجه عبد السميع الذى يشبه الكرة.. يهمسون تحت جنح الظلام يتساءلون ويزيدون فى التساؤل عن كل صغيرة وكبيرة بخصوص حالة الجثة حين أحضرتها سيارة الشرطة ومندوب النيابة لمشرحة الناحية.. يطلبون منه تفاصيل أكثر عن الشق الذى كان فى عنق الجثة، وإلى أى مدى كان عمقه، وهل طال الأوردة والشرايين والحلقوم. وكيف كان لون الدم الذى يغطى صدر القتيل وباقى جسده حتى ركبتيه..
يستحثون عبد السميع ليخبرهم باسم الضحية الجديد وطبيعة عمله ومحل سكنه.. يستزيدونه ليحدد لهم المكان الذى جرت فيه وقائع الضرب والتعذيب حتى الموت، هل كانت فى المظاهرة الأخيرة.. هل فى الغرف الخلفية الملحقة بمخافر الشرطة.. هل شارك العسس فى ضرب الضحية وصعقه بالكهرباء.. أم أن بلطجية الشوارع، ممن يشبهون إيشي، المحميين من مدير المشرحة ومن ضباط مشهورين بانحرافهم، هم من قاموا بتمزيق الرجل انتقاما لعدم تأدبه معهم.. وهل عاينت النيابة موقع الحادث قبل أن تطلب إحالته للمشرحة لمعرفة سبب موته، ولماذا لم يبق مندوب النيابة إلى نهاية عملية التشريح.
فى مثل هذه الليالى تدب الحركة الخافتة فى شارع النور حيث يتنقل الجيران بين البيوت للاستزادة فى معرفة التفاصيل من أكثر من راو من عمال المشرحة.. يتحركون تحت جنح الظلام خفية من وراء ظهر إيشى وزمرته.
بعد رواية كل ما شهده من آثار للضرب والصعق والحرق بالتفصيل، يسأل رجل كان يعمل ممرضا فى مستشفى مجاورة للضاحية، وهو جالس مع الجمع الملتف حول شيشة الرقيب عزت وابن عمه عبد السميع.. يسأله الممرض عن لون جلد الضحية وقت دخول جثته للمشرحة، وهل كانت الدماء ما زالت بلونها الأحمر تسيل من الجروح، أم أنها كانت متخثرة. وهل كانت هناك أى التواءات غير طبيعية فى الساقين والذراعين والعنق، تدل على تحطم عظام القتيل أثناء عملية القتل..
يبدو أن هذا الممرض المتقاعد عن العمل منذ زمن لا يحن لمهنته فقط، بل لنزعة المحقق الخبير بأمور الجسد وقدر التعذيب الذى يمكن أن يفضى إلى الوفاة.
لا تخلو مثل هذه السهرات المرعبة من زجر الأمهات لأطفالهن لكى يناموا، حتى لا يطرق سمعهم كلام يجلب لهم الكوابيس والخوف. ويتراجع الزجر حين يدخل الرواة فى وصف ما يحدث بعد انتهاء مدير المشرحة ومساعديه من تشريح جثة الشاب الذى كان يقود فريقا من المحتجين أمام مبنى البرلمان..
نعم.. يقول عبد السميع، بينما الرقيب عزت يرمقه بنظرة خالية من أى تعبير، إنه ومنذ البداية يقوم العسس بإبعاد ذوى القتيل ومن معهم من محامين وناشطين فى منظمات حقوقية ومراسلى صحف عن الدخول من باب المشرحة، ويقولون لهم إن عليهم الانتظار عند بناية النيابة، لأن التقرير سيرسل إلى هناك..
وفى الداخل، أى بعد أن يخرج المدير من غرفة التشريح، وسط مساعديه، يتوجه عبر ممشى طويل قاصدا غرفة مكتبه، حيث يصحبه إلى هناك الضابط وإيشي. يقول عبد السميع إن الثلاثة ومن يستدعونه من موظفى المشرحة وعمالها، يلتزمون الصمت.. لكن يسيطر على الجميع، وهم واقفون فى مكتب نادر بك، شعور بأن الوقت يمر ولا بد من مواصلة العمل، فيتمتم أحدهم بأن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. ويتمتم آخر:
- "وحدوووووه..".
وتظهر على وجوههم تعابير لبكاء مكتوم يكاد يتفجر من عيونهم وأفواههم، لولا وقار المدير، ومهابة الضابط وثبات إيشى الذى شارك فى ضرب فريق المحتجين وشق عنق زعيمهم بالسكين أمام بوابة البرلمان. حالة من الوقار والمهابة ليست عميقة ولا سطحية.. إجمالا كانت حالة ذات طابع كأنه رسمي..
تقريبا كانت حوادث القتل التى تحال فيها جثث الضحايا إلى المشرحة هى وسيلة التسلية الوحيدة فى الليالى المظلمة التى يقطع فيها إيشى الكهرباء عن الشارع. ومن شقة عزت إلى شقق جيرانه حفظ أهل كل بيت من البيوت حركات مدير المشرحة دون أن يروه.. تخيله كل منهم بطريقته.. تخيل سكناته وحركاته وطريقة شده لأنفاس السيجارة وأسلوبه فى مسك المشرط والسكين.. رسموا صورا فى عقولهم لأصابعه التى يعقفها كمخالب الغراب على القلم ليوقع على التقرير بأن القتيل مات بالسكتة.
كان رواة هذه القصص من العاملين فى المشرحة يحكون التفاصيل وهم يبعدون شبهة المشاركة فيها عن أنفسهم، لكن بمرور الوقت أصبحوا لا يجدون غضاضة فى الاعتراف بأنهم شاركوا هم أيضا فى تذييل التقارير بتوقيعاتهم..
حين اعترف عبد السميع بذلك للمرة الأولى أمام قريبه الرقيب عزت، فى شقته، وسط الجيران، شعر بالخوف. ونكس رأسه للحظات.. توقف عن الكلام محركا شفتيه بتمتمة غير مفهومة. ارتفع صوت كركرة الشيشة وهو على هذه الحال.. يشد الرقيب عزت أنفاس الدخان من الخرطوم وهو يرقب وجوه ضيوفه الذين بدا أنهم تقبلوا الأمر كأنهم كانوا يعلمون به مسبقا..
فى الحقيقة اعترف الرواة من عمال المشرحة، مثل عبد السميع، فى أوقات متقاربة، بما كانوا يقومون به داخل المشرحة.. اعترفوا على استحياء لأنهم لاحظوا الأهمية التى أصبح أهاليهم وجيرانهم يضفونها على طايع الذى كان ما زال فى نظرهم مجرد ساكن جديد فى الشارع التحق بعمل غامض فى المشرحة. وبدأوا يشيرون إليه على أنه مجرد قروى فقير مهاجر من شمال العاصمة جاء ليدرس الطب والتحق بالمشرحة كعامل نظافة ويشارك فى التوقيع على تقارير المدير أيضا.
كما ظن الرقيب عزت بالضبط.. وجد السكانُ الشغوفون بأجواء القتل الذى لا يعقبه قصاص من القتلة الأعذار لأبنائهم، ومنها أن توقيع المدير المسئول عن المشرحة هو الأساس، أما توقيعاتهم هم فلا تزيد عن كونها تحصيل حاصل. وأن المذنبين الحقيقيين هم الأطباء من مساعدى المدير وكذا الخبراء الذين يعملون فى المشرحة..
وقال عبد السميع بعد أن تناول خرطوم الشيشة من ابن عمه الرقيب. قال وهو يشد أنفاسا متلاحقة يرفع معها حاجبيه إلى أعلى:
- "والله تحصيل حاصل.. وبعدين هو المدير. إذا رفضنا يفصلنا من العمل.. ثم إن الضابط يرى ما يحدث، والأطباء والموظفون الرسميون وكل من فى المشرحة يعلم بما يحدث.. نحن الصغار حيث لا نساوى شيئا، هل يمكن أن نفهم أكثر من الحكومة؟ لا يمكن".
ورأى الرقيب عزت أن السكان لا بد أدركوا أن العداوة لعمال المشرحة يمكن أن تفقدهم عالما واقعيا أقرب إلى الحكايات الخرافية التى يتذكرونها عن أسلافهم حين كانوا يروونها لهم ليلا وهم صغار. سحب المحارب القديم ساقه الوحيدة تحته واتكأ على مرفقه، نفث الدخان وسرح مع أفكاره الخاصة محاولا فرز الواقع من الخيال..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة