قفزت فى رأسى فكرة أن أركب سفينة تمخر بى عباب النهر ذاهبة إلى القناطر الخيرية لأشاهد نيلنا الخالد وركبتُ الأوتوبيس النهرى وبمجرد أن تحرك بدأ كل راكب من ركاب السفينة يرمى بقايا الطعام فى سلة المهملات الكبيرة التى أحاطت بنا من كل جانب أتدرون ما هى هذه السلة؟ إنها نهر النيل الذى هو نهر من أنهار الجنة والذى يشرب منه ملايين المصريين فحوقلت وقلت: إن هذا النهر كان أجدادنا المصريون القدماء يعبدونه ويسمونه الإله "حابى" لأنه مصدر الخير بالنسبة لهم ولم يكن مسموحاً لأى أحد أن يرمى فيه قشة واحدة فقد كان هذا الفعل يعتبر جريمة شنعاء يعاقب عليها القانون والدين عقابا ً صارما ً بل إنه كان من بين الأشياء التى يعترف بها الميت أمام إلهه بعد الموت ليدخل الجنة ويزحزح عن النار هو قوله: "أنا لم ألوث ماء النيل" فكان عدم تلويث مياه النيل أحد الشروط لدخول الجنة، أما الآن، فالنيل مستباح للجميع.
النيل الذى كان ملهمًا للأدباء والشعراء والفنانين والمطربين ليتغنوا بسحره وجماله، أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وعبد الحليم حافظ ، أصبح الآن يعانى الإهمال وعدم النظافة ومصدرًا للتلوث!! إن هذه خيانة عظمى لأجدادنا المصريين القدماء الذين سلموا لنا النيل طاهرًا، صافيًا، نظيفًا، حافظوا عليه بكل الوسائل من أجل الأجيال القادمة، وتصورت لو أن الفرعون استيقظ من قبره الآن ورأى فتاة أو فتى يرمى القمامة فى النيل لأصدر على الفور مرسومًا ملكيًا بقطع يدها ويده؛ فما من نهر فى الدنيا قامت بينه وبين الناس الذين يعيشون عليه علاقة حميمة كنهر النيل.
هذه العلاقة الغريبة بين الناس والنهر، كانت ذات طابع حضارى رفيع، هو الوفاء المتبادل، وفاء من النهر إلى الناس، ووفاء من الناس إلى النهر؛ فكان فيضان النيل كل عام هو المعنى الذى تجلت فيه فكرة الوفاء: وفاء من النيل بوعده فى نشر الخير العميم فى ربوع الوادى، وبأنه قادم بالمياه التى تروى ظمأ الأرض وظمأ الناس وبالطمى الذى يخصب الأرض ويمنحها المزيد من القوة والقدرة على العطاء، وكان على المصريين أن يظهروا بدورهم وفاءهم للنهر الذى جاء لهم بكل هذه الخيرات فكانوا يقيمون الاحتفالات مبتهجين وأسموها عيد وفاء النيل، فقد علمهم النيل الزراعة والاتحاد فى مواجهة خطر الفيضانات وكل العلوم التى تقدموا وبرعوا فيها كانت بسبب النيل ، وزادت حسرتى وتنهدت تنهيدة كبيرة وأنا أسمع فى أذنى الأغانى التى تتغزل فيه:
يا تبر سائل بين شطين ياحلو يا أسمر لولا سمارك جوة العين ما كانت تنور
وأيضًا: من أى عهد فى القرى تتدفق؟
وأحسست أننا لو لم نصُن هذه الهبة الكبرى من الله فسوف نستحق أن تزول منا وأن دول المنبع لو منعت عنا مياه النهر فسوف يكون ذلك جزاءً وفاقا لسوء استخدامنا له، وتذكرت مقولة النبى صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة أحسنى جوار نعم الله، فإنها ما نفدت من قوم فعادت إليهم".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة