معصوم مرزوق

نقش على جدارية الشجن

الإثنين، 06 سبتمبر 2010 07:20 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت الطائرة تتصارع مع الرياح، بينما مشاعرى كلها تصارع الخواطر التى احتلت كيانى، كنت أقطع الطريق الطويل إلى مصر، بينما قلبها – دون أن أدرى – يقطع الخطوات الأخيرة، كان سباق بين الأزمنة والمسافات، ألم الانتظار فى صالة الترانزيت وأنفاسها الأخيرة فى غرفة الإنعاش، ولعل قلبها كان يشعر بمعاناتى أثناء الرحلة الطويلة، وكيف لا وهى التى روت لى بعد عودتى من الحرب، إنها فى منتصف نهار 23 أكتوبر 1973 شعرت بانقباض فى صدرها، وخرجت إلى الشارع كى تسير بغير هدى وقد ساورها القلق على مصيرى.. لقد كنت فى نفس اللحظة أخوض آخر معركة لى فى هذه الحرب، وكانت معركة صعبة خسرت فيها نصف رجالى تقريباً على مشارف السويس، وكدت أن أقتل خلالها عدة مرات.. إنه قلب أمى الذى جاورته فى أعماقها تسعة أشهر، وكان صوت نبضاته يهدهدنى فأنام على ألحانه الجميلة، قلب أمى الذى احتوانى منذ طفولتى وحتى شيخوختى، وكان حصن الأمان الذى ألوذ به ويمنحنى القدرة على الصمود والمواصلة.

كنت أرى نجاحى فى فرحة عينيها، وهى التى كانت تحثنى على الاجتهاد والتفوق منذ نعومة أظافرى، ولم يكن يزعجنى فى الإخفاق سوى خجلى من أن أواجهها به، رغم أنها كانت تزودنى دائماً بالمدد الذى أستعين به كى أتجاوز مصاعبى وهمومى، تسكب فى أعماقى بعضاً من تفاؤلها وإيمانها، وتفتت أحزانى حتى تتلاشى مع ابتسامتها الطيبة وهى تهمس بأن الغد سوف يكون أفضل.

إن أفضل خصائصى هو ميراث منها، فهى المعلمة الأولى التى نقشت فى وجدانى الصدق والتفانى والإخلاص، ومن شفتيها تعلمت أول حروف الأبجدية وأول أرقام الحساب وفلسفة الصبر، وهى التى كانت تشجعنى دائماً على اقتناء الكتب والقراءة، ومازلت أذكر فرحتها الغامرة حين قرأت أول سطور مطبوعة لى، كانت فخورة بأن بذرتها قد بدأت تؤتى ثماراً، وبأن رسالتها فى الحب قد وجدت من يروجها.

كنت قبالتها نفس الطفل لم يتغير، الطفل الذى يحن إلى صدرها، يلتمس حمايتها، يتمنى رضاها، وظلت على عرش أمومتها تقود مملكتها الصغيرة بكفاءة واقتدار حتى نجح أبناؤها السبعة فى شق طريق الحياة، بل وواصلت دورها العظيم مع الأحفاد الذين أصبحوا قبيلة صغيرة متوحدة تحت راية "حب تيتا".

كانت تستيقظ فى الفجر كى تعد لنا طعامنا، وتتأكد من نظافة ملابسنا، وترتب لنا حقائبنا المدرسية، وبعد عودتنا نأكل من طعامها الشهى، وهى تراجع كراريسنا وكتبنا كى تتأكد من انتظامنا وتفوقنا، ورغم الإرهاق الذى كنا نسببه لها، إلا أنها حافظت دائماً على ابتسامتها الحانية وروحها المرحة المتفائلة، حتى عندما كانت تغضب، سرعان ما تصفو وتسامح، كانت دائماً تنصح بأن القلب لا يحتمل الكراهية، فهو رقيق لا ينبغى أن نضخ فيه سوى الحب.

نامت السيدة الجليلة، أغمضت عينيها أخيراً، كأنها طفلة وديعة تبتسم فى أحلامها الملونة، أو علها فراشة بيضاء تتهادى كنسمة صيف على وجنات الزهور.. لم تعلن ميقات الرحيل.. لم ترتب – كعادتها – كل شىء.. فقط أغمضت عينيها، وغادرت.

زارتنى ليلة أمس، لم تقل شيئاً، كانت تتابعنى بعينيها، وكنت ممتلئاً بالأمان، لا أتذكر ما إذا كانت متبسمة أو غاضبة، لقد كانت هناك طول الوقت بغير انقطاع، بينما كنت أتحرك من مكان إلى آخر بهمة ونشاط، ووجهها أمامى كصفحة الأفق يحتوينى، يغدق بالشعور الذى لم يفارقنى منذ بداية رحلتى من داخل أعماقها.. هل أنت راضية عنى؟.. كم عذبنى هذا السؤال.. رغم أنها كانت دائمة الدعاء لى.. ليتها طالت تلك الليلة الأخيرة عندما زرتها قبل سفرى، ليت عناقنا قد طال.. لقد أدمعت عيناها، وكأنها.. بل لابد أنها كانت تشعر أن ذلك هو العناق الأخير.. لم أتمكن من احتجاز الدموع، حاولت التماسك، لكنها لم تعد هناك كى تمنحنى القوة والثبات والثقة.. وقفت أمامها مأخوذاً، وقد أطبقت شفتيها معلنة صمتها اللانهائى.. انحنيت مقبلاً رأسها، شعرت بالحرارة تسرى فى شفتى، وكأنها – لوهلة – تيقظت كى تنصت لهمساتى، كأن شفتيها انفرجتا كى تمنحنى الصبر والثبات، فتوقفت عن البكاء.

أى رويات أرويها عنك، وأنت كل حياتى منذ أن كنت خلية تتشكل؟، حتى فى سنوات غيابى وسفرى الطويلة، كان صوتك يعبر الجبال والمحيطات كى تملأى فراغ أيامى الباردة بحرارة حبك الصادق، لن أجد ما يكفى من الصفحات أو المداد كى أسطر ولو بعضاً من روايتك التى هى كل روايتى.

شغفك الدائم بالحكى، وإصرارك على المرح الذى كان يخفى قلقك الدائم علينا، حرصك على أناقتك وحسن هندامك فى اعتدال، إيمانك العميق ورغبتك المتجددة فى تكرار زيارة الأراضى المقدسة كل عام، التفاف الأحفاد حولك وأنت تحكين لهم وتستمعين إليهم باهتمام، جبل صبرك الشامخ، رغم آلام المرض تهوينين علينا، تضحكين من قلقنا، أنت عظيمة يا أيتها الجليلة الحبيبة.. يا أمى.

حطت الطائرة أخيراً فى مطار القاهرة، ومنذ اللحظة الأولى التى غادرت فيها سلم الطائرة، شعرت بأن الظلام المحيط يقبض قلبى، وبأن ما اعتدت على رؤيته فى المطار قد اختلف، وبأن الأعلام فوق صواريها منكسة، وبأن عيون الناس من حولى ترقبنى وتتابعنى بحزن، وبأننى وصلت بعد الميعاد.. قبض شقيقى على كفى بقوة، عانقنى، همست له وكأننى لا أريد للكلمات أن تخرج: "أما زالت معنا؟".. قال: غادرتنا منذ ساعتين.

غادرت السيدة صباح خميس العربى فى ليلة القدر، حين اقتربت السماء من الأرض، وارتفع طيب الأعمال، وكأنها لم ترد أن أراها فى تلك اللحظات الأخيرة كى تظل صورتها النابضة فى خيالى، وبعد الظهر كنت أحمل التى حملتنى وهناً على وهن كى نواريها الثرى، ثم عدنا – نحن امتداداتها فوق الأرض – نحمل ذكراها معنا، وكأنها حولنا مازالت تباركنا وتمنحنا الأمان، وصوتها يتردد فى أذنى مثل أعذب الألحان.

تركت القاهرة بعد أيام قلائل، وبينما كنت أنتظر موعد الطائرة تأملت حولى، لأول مرة لا أشعر بالافتقاد إلى الوطن عند مغادرته، فقد كنت دائماً أمتلئ شوقاً للحظة العودة فى لحظة الرحيل، لم أفهم ذلك الشعور، وكعادتى فى مثل هذه الأحوال أخرجت دفترى الصغير وبدأت أكتب عليه: "كنت أتوق للعودة إلى أمى، أما الآن فقد أصبحت معى فى كل مكان، لأول مرة منذ أن فارقت رحمها، نعود مرة أخرى كى نتوحد".

يا أيتها الروح المطمئنة، ارجعى إلى ربك راضية مرضية، فادخلى فى عبادى، وادخلى جنتى.. ولنقرأ لها الفاتحة.

*عضو اتحاد الكتاب المصرى










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة