اللغة عبارة عن شبكة من كلمات تفضى إلى شبكة من التصورات. وعادة ما تكون هذه التصورات راسخة فى ذهن الإنسان العادى لدرجة أنه لا يكلف نفسه عناء البحث عن تصورات جديدة. فالكلمة عنده مجموعة من الحروف تشابكت فى نظام معين لتنتج معنى معينًا تم الاستقرار عليه منذ زمن بعيد. اللغة فى هذه الحالة أمينة إلى حد بعيد. ذلك أن الأمانة فى الغالب هو الاتفاق، أو الحرص على أن يكون الاتفاق هو أس العلاقة بين طرفين أو أكثر.
أما اللغة عند الشعراء فهى خائنة لجميع تصوراتها ومعانيها. ولذلك فهم يقومون باستغلال هذه الخيانة استغلالاً نبيلاً من أجل خلق وإبداع تصوراتٍ جديدة. وهم فى هذه الحالة ليسوا مُطالبين بأن يكتبوا لغة قدر مطالبتهم بأن يخلقوها، أو بالأحرى يخلقون بها عوالم قائمة على تصورات لغوية جديدة. الدال يخون المدلول ما أُتيح له ذلك. والعلاقات الْمُتفقُ عليها بين اللفظ والمعنى كثيرًا ما يتم التخلى عنها فور اكتشاف علاقات جديدة. ولذلك فإن قصيدتهم لا تقول قدر ما تكون. كما أن قارئ قصيدتهم لا بد وأن يعتمد الغواية مسلكًا للهداية إلى تلك التصورات والمعانى الجديدة.
إن القصيدة بنت عدم الثقة فى اللغة. وعدم الثقة ليس دافعًا للتخلى عن اللغة برمتها، ولكنه دافع للتجريب ولإعمال العقل والحس -بدون الفصل المتعسف بينهما- فى اللغة بغرض اكتشاف أودية ومجاهيل أخرى. وإذا كان "الكلام عن الشيء شيئًا بعيدًا عن الشىء" فإن الشعراء عادة ما يكتبون القصيدة لذاتها والقراء يقرؤونها لغايات أخرى. ولذلك لا غرابة فى أن تكون مجموعة الحقائق (الدينية، والفلسفية، والسياسية، والعلمية) الراسخة فى العقول البشرية ليست إلا مجازاتٍ أكثر قدمًا لكنها غدت حقائق بمجرد أن فقدت رونقها المجازى وطاقتها التخيلية. يقول دريدا: الحقائق أوهام كنا قد نسينا أنها كذلك؛ إنها الاستعارات التى استُخدِمَتْ وفقدت قوتها المحسوسة.
حين ينزع الشاعر إلى الكتابة إنما يُريدُ الإقامة باللغة فى المسافة بين الإيمان والكفر، أو بالأحرى السفر الدائم بين الطرفين. لأن كلاهما واحد عنده. الفرق الوحيد -فقط- فى صفة السلب والإيجاب. يكتب الشاعر قصيدته وكأنه يُدلى ببصمة روحه على وثيقة فقدان الثقة مؤمنًا أنه فى طريقه إلى أن يرفع فوق أرض الوهم أعمدة حقيقة جديدة.
وواثقًا من -ولا أقول واثقًا فى- كل إمكاناته المعرفية والإنسانية ينضم إلى ذلك الفريق الذى لا يتَّبعُ إلا الظن، وليس فى قلبه ذرة من إيمانٍ إلا فى الإبداع. مصدِّقًا فى حواسه وكافرًا بها فى الوقتِ ذاته. حواسه دليل روحه إلى الأشياء، وروحه دليل حواسه إلى ظلال الأشياء.
وعلى جناح اللغة يسافر الشاعر فى الزمان والمكان بلا أملٍ فى الوصول. لأنه يعرف أن الرحلة لا يجبُ أن تنتهى حتى يظلَّ على صلة بمتعة الكشف. ولعله فى سفره هذا لا يقرأ الطريق فقط، بل يُبدعه بالكتابة/ القراءة، ولا يقرأ نفسه فقط، بل يبدعها بالكتابة/ القراءة.
إن حياة الشاعر ليست إلا رحلة تفضى بدورها إلى رحلات. يدخل من باب لا يؤدى إلا إلى أبواب عدة. ويظل هكذا ينظم القصائد فى مديح الظن.. تتعطل حواسه، أو بالأحرى تنشط. المهم أنها ستفارق النظم الإدراكية والمعرفية الْمُتَّفق عليها، لتمنح الشاعر فرصة أن يعيش عوالم أخرى لا نهائية داخل عالمه المحدود.. يقول طرفة بن العبد: وإلا فما بالى ولم أشهدِ الوغى أبيتُ كأنى مثقلٌ بجراحِ
بإمكان الشاعر أن يعيش عوالم ميتافيزيقية لا تنفصل عن عالمه الفيزيقى إلا بقدر ما تتصل به. كما أنه لا يفقد الثقة فى حواسه إلا بقدر إيمانه بها.
يحطُّ الشاعر كنحلة على زهرة اللغة ليرشف رحيق الشعر، كما يقطف وردة الجنس ليملأ رئتيه بعبير الشبق. والجموع من حوله يرشقون اللغة بطلقات التواصل كما يذبحون الجنس بسكاكين التناسل.
ـــــــــــــــــــ
الإيقاع: كتابة الصمت
إذا كانت الكلمات هى لغة العقل، فإن الإيقاع هو لغة النفس. ولأن الكلمات -كما أشرنا- عاجزة عن أن تأخذ بيد قارئ الشعر إلى الفكرة، فإن الإيقاع هو الدليل إلى الانفعال الذى يغلِّف الفكرة. اللغة هى البصر، فى حين أن الإيقاع هو البصيرة. وإذا استطاعت الأشياء أن تخدع البصر فلا بد للشاعر والقارئ -على السواء- أن يستعينوا بالبصيرة للوصول إلى أى مكان، حتى ولو كان الوصول إلى اللا وصول.
للوهلة الأولى نظن الصمت واحدًا والصوت متعددًا. ولكننا -بقليل من التأمل- نكتشف أن للصمت فى الشعر لغةً أيضًا. لغة الصوت تتشكل من الحروف، أما لغة الصمت فإنها تتشكل من الإيقاعات.
ولا جدال فى أن هناك علاقة تنشأ –فى القصيدة- بين الصوت والصمت. بين الكلمات وإيقاعها. ولكن إذا كانت المرجعيةُ الإيقاعية حاضرةً فى ذهن الشاعر، فإنها تصيب الطاقة اللغوية بالتأثُّرِ، والتَّبدُّلِ، والتَّغيُّر، حتى نظنَّ -للوهلة الأولى- أن الشاعر لا يملك إلا الامتثال إلى الإيقاع كما عبَّر محمود درويش:
لا دور لى فى القصيدة غير امتثالى لإيقاعها: حركاتِ الأحاسيس/ حسًّا يُعدِّلُ حسًّا/ وحدسًا يُنَزِّلُ معنىً/ وغيبوبةً فى صدى الكلمات.
هكذا تؤثِّرُ المرجعية الإيقاعية على طاقة الشاعر اللغوية تأثيرًا قد يكون عيبًا وعبئًا على الشاعر من وجهة نظر القارئ العاديّ. أما الشاعر الشاعر، فإنه يعرف أنَّ عبء أو قيد المرجعية الإيقاعية بإمكانه أن يكون محرِّضًا على الخروج والحرية. ولكنها الحرية التى يصنعها القيد، والخروج الذى استوعب القانون..
الذاكرة الإيقاعية وبخور الشعر:
إذا كانت الموسيقى كالشعر فنًّا زمنيًّا، فإنها تعتمد بشكل كبيرٍ على الذاكرة( ) فى تلقِّيها وإنتاجها فى الآن نفسه. يحتاج الموسيقى إلى ذاكرته الفردية من أجل تنظيم عددٍ من الإيقاعات بغرض صنع مقطوعة موسيقيةٍ ستغدو فى المستقبل جزءًا من الذاكرة الإيقاعية الجمعية.. ذلك الإنتاج الإيقاعى الجديد ليس إلا الذاكرة الإيقاعية القديمة مضافًا إليها إنتاج جديد، ومنقَّحةً أيضًا من أنغام قديمة فقدت رونقها فتخلَّت عنها الذاكرة الإيقاعية الأقرب إلى الإنتاج الإيقاعى الجديد..
ولعلَّ فى ذلك مبررًا لأن يستخدم الشعراء عددًا من البحور بكثرة فى وقت ويعرضوا عن بحورٍ أخرى فى وقتٍ آخر. قد لا يكون هناك وجود لعنصر القصد قدر هيمنة عنصر الاستجابة، استجابة الشاعر إلى الذاكرة الإيقاعية الآنية. ولكن هذه الاستجابة ليست خضوعًا عقيمًا وتقليديًّا كما خضع الإحيائيُّون والتقليديون فى مستهل القرن الماضى. وإنما هى استجابةٌ منتجة، بل وتضيف مع الوقت إلى الذاكرة الإيقاعية كما أشرنا إلى موقف الموسيقى من إنتاج قطعة موسيقية جديدة.
هل بإمكانِ من يتهجَّى حقيقته فى القصيدةِ
أن يكتبَ الصمتَ فيها كما يكتب الصوتَ؟!
من منهما أبدعَ الآخرَ
الشاعرُ الضائعُ الحرُّ أبدع -مستسلمًا للضياع- قصيدته
أم مصادفةً أبدعته القصيدة؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة