تجربتى الشعرية، بدأت بـ"السفر إلى منابت الأنهار" ولم تنتهِ بالطبع بـ"جليس لمحتضر" أو حتى "مكاشفتى لشيخ الوقت".. فى تجربتى انتقالات مختلفة، ويمكن للطائر المحلق أن يرصد هذه الحركة من الديونسيوسية إلى الأبولونية فى تجربتى، وفى هذا التحول التدريجى تخلت التجربة عن عناصر وأبرزت أخرى وإن تمسكت على الدوام باللغة الحسية والحبك السردى.. لا شك أن هذا التحول كان قرينا بتحولات الوعى، فإذا كانت مهمة الشاعر ـ فيما مضى ـ هى اكتشاف الإنسجام فى الفوضى عبر مؤالفة الأصوات كما فى الإيقاع الخليلى فإن مهمة الشاعر الآن ـ فيما أرى ـ لم تعد قاصرة على تجميل العالم أو تسويغه باكتشاف النظام فى الفوضى وإنما مهمته اكتشاف الفوضى فى النظام، أى البدء بالعالم كما هو عليه، ودون أى تصور مسبق.. من خلال هذا الوعى أصبح فى إمكانى وضع الموسيقى فى مواجهة الميلودى، ووضع الآخر فى مواجهة الجماعة، بجملة واحدة كانت تجربتى تتحرك من مركزية الصوت ومركزية الذات ومركزية الجماعة الأيديولوجية إلى تعددية ترفد الصوت بالموسيقى والأنا بالآخر والجماعة بالثقافات المغايرة.
تخيلت الشعر "امرأة تقودنى كضرير فأرى ما لا يُرى وأسمع ما لا تسمعون"، لقد قادتنى خلال تجربتى كلها حاستى السمع والبصر.. وكنت أعتقد أن الشعر تشكيل جمالى للزمن عبر تقطيعه بالصوت، وتشكيل جمالى للمكان عبر الصورة أى ما يسمى الآن بالسينوغرافيا.. كنت أرى أن الوقوع على صورة شعرية تزاوج بين الألفة والدهشة، والبصر والبصيرة هى مهمة شعرية بامتياز، وهى كذلك بالطبع و لكنها لم تعد كل شىء.. كنت مولعاً بالسينما، بل و حلمت بأن أكون مخرجاً، فقد سحرتنى منذ صباى الباكر هذه اللغة التى هى الخيال دون ترجمة، سحرنى الإيقاع الذى تمضى به المشاهد: السرعة والبطء، القطع والمزج، القرب والبعد، الصوت والإيماءة، الموسيقى والكلام، وكان السؤال الذى أرقنى منذ بدأت الشعر: هل يمكن للشعر أن يغتنى ويتسع عبر هذه الجماليات؟
كنت رساما (تخرجت من كلية الفنون) أحلم بالقصيدة التى تقول نفسها كما تفعل الأيقونة، أو كما تفعل لوحة الطبيعة الصامتة، دون تعليق يضطر إليه الشاعر، فيبدو كلاما فائضا عن الحاجة! هذه بعض المؤثرات التى شكلت تجربتى.. وفيما يتعلق بالآباء ستجد فى قصائدى الأولى أصوات صلاح عبد الصبور وأمل دنقل لكن تجربتى كانت قد مضت، وأسئلتى قد بدأت، وازدادت رغبتى فى خلوص بيتى لى!!.
فى حمى البحث عن الهامش التقيت بالنفرى، والبسطامى، والسهروردى، وابن عربى. و بهرنى الشطح الصوفى إذ كان يرفدُ دراستى للسوريالية بتجليات غير مسبوقة، وأقدم من الحركة الأوربية ذاتها، وقد استفدت من الشطح فى تشكيل صورى الشعرية، أما اللغة فأعتقد أن ميلى الطبيعى للاقتصاد والإحكام، وبساطة التركيب، جعلنى أمضى إلى المنجم الذى نحتوا منه ولا آخذ ما تساقط منهم!
فى الثلاثينيات من القرن الماضى كان التخلخل الذى أصاب القصيدة العمودية قد أدى فى النهاية ـ وعبر ولادة مؤلمة ـ إلى ظهور توءمين فى وقت واحدٍ هما: (قصيدة التفعيلة) و(قصيدة النثر) ولأن قصيدة التفعيلة تحمل جينات الأب المورِّث فقد تم قبولهاـ بعد عنت ـ بينما رُفض الاعتراف بقصيدة النثر باعتبارها شعرا لقيطا !
كانت مجلة (شعر) قد أسست ـ منذ الخمسينات ـ لهذه القصيدة المتمردة، ومع اختفاء المجلة انطلقت إضاءة 77 لتمارس الدور نفسه، بل ولتخرج القصيدة من الجيتو اللبنانى لتتنفس الهواء تحت سماوات أخرى، أى أن الظهور العلنى والواسع لقصيدة النثر حدثٌ سبعينى بالأساس.
أنا أحد شعراء جيل السبعينيات لكننى كنت أكثر تحققا منهم إبان كونهم جماعات، كنت عضوا فى (جماعة كتاب الغد) فى أواخر الستينات، قصائدى تذاع من البرنامج الثانى فى عهد بهاء طاهر، وأنشر قصائدى فى ملحق المساء الأدبى أيام عبد الفتاح الجمل، ونشرت لى مجلة (الطليعة) قصيدة "السفر إلى منابت الأنهار" فى ملفها الشهير عام 1973 جنباً إلى جنب مع عفيفى مطر.. كنت معروفاً أكثر، الأمر الذى لم يجعل انضمامى إلى مجموعة من الشبيبة امرا مغريا، لقد طلبوا منى قصائد لإضاءة 77 ونشر بعضها بالفعل.. لم تكن بياناتهم جديدة بالنسبة لى فقد كنت فى هذه السنوات أقرأ أصولهم عند أدونيس و حاوى و أنسى الحاج والماغوط و جبران، كما كنت ولا أزال على علاقة وطيدة بأحد آبائهم الروحيين وهو د.عبد المنعم تليمة، الذى كان واحدا من مؤسسى كتاب الغد، لقد مرّ على هذه السبعينات زمن طويل ولم يبق من الدعاوى سوى ما كان تعبيرا حقيقيا عن الروح الجديدة التى زلزلت الشعر وجعلته ـ بالتأكيد ـ غير ما كان عليه قبلنا، كما لم يبق تحت خيمة الجماعات سوى آحاد هم كل ما تبقى من هذا الجيل سأستعير جملة من مقال حلمى سالم المنشور فى الحياة اللندنية عن ديوانى "جليس لمحتضر" يقول: و لكن اولئك الشعراء ـ يقصدنى أنا و آخرين ـ قاوموا العزل خارج الدائرتين، بل كونوا دوائرهم الإبداعية التى فرضت نفسها على الساحة الشعرية بجهدهم المتواصل، وبتنوع عطائهم الشعرى و تجدده فى الوقت الذى لم تمنح خيمتا الدائرتين شرعية لبعض المتوسطين الذين انضووا تحت عباءة الجماعات المسلحة ".انتهى كلام حلمى سالم.
الشعر كائن حىّ وهو يطور نفسه ليجابه عالما معقدا كالذى نعيش فيه، وربما ما نراه من هوس التجريب فى هذا الفن دلالة على أن الشعر كالإنسان يتطور عبر التحدى والاستجابة.
بالطبع القصيدة البسيطة هى لحن ـ مهما كان جميلا ـ لا يملك شيئا أمام السيمفونية، وهى كوخ يبهت أمام الكاتدرائية، ولكن لماذا لا ننتبه لما يحدث فى الشعرالآن لقد وسّع نفسه وأذاب تخومه لتلتقى بتخوم أخرى هى تخوم السينما و المسرح والموسيقى و العمارة؟
انه يقوم بتحولات مدهشة انظروا إلى "ذاكرة الوعل" و"طائر الكحول" و"معلقة بشص" و"جليس لمحتضر" لتدركوا سعيى لاقتناص العالم، وتعاينوا الشباك التى أقترحتها لذلك يمكن القول إن إعادة النظر فى الرؤى المستقرة، وطرح الأسئلة، كان الهوس الحقيقى الذى ميز السبعينيين وقادهم إلى خلخلة النموذج وهدمه، فعلى مستوى اللغة تم المزج بين الشريف والمبتذل، وعلى مستوى الإيقاع تم المزج بين الإيقاع الخليلى وموسيقى النثر، وفى البناء تم التخلى عن القصيدة البسيطة لصالح القصيدة المركبة، كل ذلك فى إطار رؤية تنتصر للشفاهى والمسكوت عنه أو المحذوف (لا للعلم به بل للخوف منه!)، طرح السبعينيون بجرأة مفهوم الشعر نفسه فى قصائدهم، وهدموا ثنائية الشكل والمضمون، إذ صارالشكل معنى فى ذاته، ومن هنا كان التوسع فى التجريب توسعا فى موائمة القصيدة لوقتها، وحتى القضايا الكبرى تراجعت فى مواءمة بين الجمالى والسياسى لتدخل إلى النص من الأبواب الخلفية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة