خالد صلاح

خالد صلاح يكتب: «مدينتى» العقدة.. والعقود

الأربعاء، 29 سبتمبر 2010 09:59 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ما نريده ليس القضاء على مشروع «مدينتى» أو تحويل حلم الحاجزين وحملة الأسهم إلى كابوس، لكن ما نريده أن تحكمنا قوانين عادلة تساوى بين الناس فى أى وقت، وفى كل وقت، لا أن تصبح القوانين لعبة تستخدم الحكومة منها ما تشاء، متى تشاء
يمكنك أن تقرأ مقالى هذا بعد أن تطالع أولا النص الكامل لقرار نيابة الأموال العامة بشأن حفظ التحقيقات فى قضية «مدينتى»، وهو النص المنشور على صفحات هذا العدد، ويمكنك أن تؤجل قراءة هذا المقال مرة أخرى، وتنتظر، حتى تعيد مطالعة حيثيات حكم المحكمة الإدارية العليا التى أبطلت العقد نفسه، انتصارا للدعوى المقامة من المهندس حمدى الفخرانى.
أما إن قررت أن تكمل قراءة المقال على أى حال، وبدون الرجوع إلى هذين النصين القانونيين، فلا تسألنى لماذا أصف ملف «مدينتى» بأنه (معجزة).

معجزة هى تلك القضية، تماماً مثل معجزة صاحبها هشام طلعت مصطفى، فالرجل الذى كاد أن يبلغ بمجده آخر نجوم هذه المجرة بمشروعاته التى جاوزت الأفق، لم يعد يعرف من الأفق سوى ما يتيحه شباك زنزانته الصغيرة، والمدينة التى شكلت حلماً لصاحبها وللدولة ولأكثر من سبعة وعشرين ألفاً من الحاجزين، كادت أن تتحول إلى كابوس لا خلاص منه، ولا نجاة من فزعه الدائم، منذ توقيع العقد بين هشام والدولة، حتى قرار المحكمة الإدارية العليا الذى عصف بكل هذه التفاصيل.

معجزة هى تلك التفاصيل أيضاً، فمن أى زاوية تنظر إلى الملف تجد تبريراً لكل الأطراف، فالدولة أرادت أن تخلق فى الصحراء البائرة مركزا عمرانياً جديداً دون أن تدفع مليما واحدا فى البنية الأساسية، أو تحمّل خزانتها أعباء إضافية.

وهشام أراد أن يستثمر نجاحه كمطور عقارى فى أن يحقق حلم الدولة وحلمه الشخصى فى مضاعفة استثمارات شركاته إلى مستوى لا يستطيع مزاحمته فيه أحد، بالمنافسة الساخنة أو حتى بالحسد المقيت، صار محصنا بالمعوذتين وبأموال الناس معاً.

والحاجزون فى المشروع الذين راهنوا بأموالهم على هذه الصحراء، ارتضوا أن يسددوا هذه الأسعار المهيبة فى الوحدات السكنية والترفيهية فى «مدينتى»، بيقين كامل أن هشام لا يمشى على أرض إلا صارت ذهباً، ولا تضع شركته اسمها على مشروع إلا أصبح كنزاً، لا تتراجع قيمته إلى الأبد.

والمهندس حمدى الفخرانى صاحب الدعوى القضائية ضد عقد «مدينتى»، لم يشأ ولم يقرر لقاء العدو، لكنه صبر عند المواجهة إذ وجد نفسه وجها لوجه أمام عدالة ضائعة فى أركان وزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية، بعد أن حرمته الإجراءات من أن يحصل على قطعة أرض صغيرة يبنى فيها وطنا صغيرا لعائلته الصغيرة فى ربوع بلاده.

المأساة الحقيقية هنا ليست فى تنازع الأطراف، ولكن المأساة هى أن كل طرف من الأطراف كان لديه قانونه الخاص من بين تراث التشريعات والقوانين المصرية، الذى يستند إليه لدعم حجته بالبرهان، وترسيخ وجهة نظره بالأسانيد القانونية، والمأساة هنا أن الكل تكلم باسم القانون، وكأننا نعيش فى بلد تحكمه قوانين متعددة، وتشريعات متضاربة، مرة يعلو قانون المناقصات والمزايدات، ومرة أخرى يعلو قانون المجتمعات العمرانية، ومرة يعلو التخصيص بالأمر المباشر، على النحو الذى لجأ إليه مجلس الوزراء مؤخراً فى حل هذه القضية من وجهة نظر الحكومة، ولمواجهة قرار المحكمة الإدارية العليا الذى قضى بإبطال العقد.
لا أستطيع هنا الزعم بأن إبطال العقد هو الحل النهائى المقبول، فنحن أمام صحراء تحولت إلى مدينة هائلة، ومواطنين راهنوا بمدخراتهم على هذه الوحدات، كما لا أستطيع الزعم هنا بأن استمرار المهندس الفخرانى فى مطاردة هذا النوع من العقود يمثل خطأ فى حد ذاته، لكننى أستطيع الزعم بكل تأكيد، وبكل اليقين الذى لا يرقى إليه الشك أن الدولة المصرية تعوم على رمال ناعمة من القوانين المتناقضة التى تحلو بها النقائص، أو تبرر بها الخطايا عند الضرورة.

نحن لا نعرف أى قانون يحكمنا، وفى أى وقت، وهل هناك قوانين تخص مواطنين دون غيرهم.. إن شئنا التعقيد والتضييق طبقنا قوانين المزايدات والمناقصات، وإن شئنا التيسير والتسهيل والتمرير، رفعنا شعار المصلحة العامة، والتخصيص بالأمر المباشر، هل يبدو لك هذا الأمر منطقياً أم أنه معجزة من معجزات الأداء السياسى والقانونى للدولة المصرية؟
أنا شخصياً لا أستطيع أن أقول لهؤلاء الذين وضعوا حصاد حياتهم فى وحدة سكنية أو استثمارية أو حتى ترفيهية فى مشروع «مدينتى»، إن عليكم الاستسلام لقضاء الله وقدره، ولتذهب خططكم فى الادخار، وأحلامكم فى السكن الناعم إلى الجحيم، كما لا أستطيع كذلك أن أقول لمن راهنوا على سهم مجموعة طلعت مصطفى فى البورصة، إن البحر من أمامكم والعدو من خلفكم، فإن أردتم أن تشربوا من البحر فاشربوا، وإن أردتم أن تموتوا بحسرتكم فلن يمنعكم أحد.. أتفهم هنا مشاعر آلاف الناس الذين دفعوا مليارات طائلة فى هذا المشروع، لكننى لا أستطيع أيضاً أن أقول للمهندس حمدى الفخرانى إنه لا أمل فى القانون، ولا حق لك حتى لو بحكم من المحكمة.. وهنا تكمن المعجزة بالفعل، معجزة الارتباك القانونى والتشريعى، ومعجزة تناقضات المواقف فى بناء الدولة، وفى أداء الحكومة، وفى الرهان المخيف على أموال الناس فى البورصة أو قوائم الحجز.

قلت لك إنها مأساة.. لأنه يشق عليك أن ترى من زاوية واحدة، لأن العدل نفسه صار مهدر الدم بين الجميع، وقلت لك إنها مأساة لأنك ببساطة تكتشف أنه لا قانون واحدا يظلل الجميع، ولا قرارات واحدة يصطف أمامها الناس سواسية، المشكلة ليست فى هشام، وليست فى مجموعة طلعت مصطفى التى ترى أنها جعلت من الرمال الصفراء واحة تساوى مليارات الدولارات، والمشكلة ليست فى حمدى الفخرانى الذى صار العدل والمساواة أملاً له فى ساحات المحاكم.. المشكلة الحقيقية هم فى هؤلاء الذين يتركون أمة كاملة فى فوضى من القوانين المتضاربة والتشريعات المرتبكة، والمأساة فى هؤلاء الذين يحررون عقوداً على أهوائهم، لا تتساوى فيها الفرص، ولا تعلو فيها قيم العدالة.

نحن نحيا فى فوضى قانونية، يمكن أن تتحول إلى عاصفة تطيح بكل المؤسسات الخاصة والعامة فى مصر، دون أن يلتفت أحد إلى أن لدينا القانون ونقيضه، والتشريع وعكسه، والقاعدة واستثناءاتها فى قالب واحد، وفى مؤسسة واحدة، وتحت يد حكومة واحدة، لها رئيس وزراء واحد، ويوجهها حزب واحد!

ما نريده ليس القضاء على «مدينتى» أو تحويل حلم الناس إلى كابوس، وما نريده ليس المساواة بين حمدى الفخرانى وهشام طلعت مصطفى فى مساحات الأرض وظروف التعاقد، لكن ما نريده أكبر وأهم من ذلك، وهو مراجعة هذا التراث البغيض من التشريعات المتناقضة التى تطبق فى كل حالة حسب الأهواء الخاصة، وحسب التفسير الشخصى لكل وزير لشكل المصلحة العامة، ما نريده هو أن يكون القانون واضحا ومنطقيا وعادلا لا يناقضه شىء، لا نريد للقانون أن يتحول من ميزان يتحاكم إليه الناس بالعدل، إلى مكيال آثم تكيل به الحكومة بين الناس على غير هدى أو نور أو قسطاس مستقيم.

فوضى القوانين هى المعجزة الأساسية التى كشفتها قضية «مدينتى»، وفوضى توظيف القوانين هى المأساة الحقيقية التى استثمرتها الحكومة كما تشاء، لا يمكنك أن تنحاز إلى طرف دون طرف، لكن يمكنك أن تصرخ فى وجه هؤلاء الذين يُلبِسون الحق ثوب الباطل عند الضرورة، أو يحافظون على هذه الفوضى، لأنها تمثل مخارج الطوارئ عند الأزمات، وأقنعة العدل المزيفة عندما يطغى الظلم على أنفاس الناس.

وفى بلد نحلم بأن تحكمه المؤسسات وتعلوه سلطة مدنية عادلة، لا يمكن أن نحافظ على هذه الأحلام البريئة إذا كانت القوانين نفسها تحتاج إلى المزيد من البراءة والكثير من الطهر.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة