معصوم مرزوق

الزمن غير الجميل

الإثنين، 27 سبتمبر 2010 07:27 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أتابع باستمتاع كتابات صديق فنان عن الزمن الجميل، ويدهشنى تمسكه العنيد بأطراف التفاؤل، حين يمزج "كوكتيل" الموسيقى والفن التشكيلى والفولكلور والدين والفلسفة والتاريخ، ثم يشرب فى صحة "زمنه الجميل".

إن كتاباته معزوفات أدبية راقية، تتنفس "نستولجيا" رحيق الفكر والأيام، تمتص رحيق أجمل ما فى النفس البشرية كى تمنحنا هذا العسل الرائق، وأمام بعض السطور تتمنى لو قبلت القلم الذى سطرها، ولكنك تفيق حتماً من خمرها المسكوب بلا مدى، حين يصدمك الزمن السقيم، فتكون أشبه بمن استيقظ فجأة من حلم وردى بديع.

لا غرو أن النفوس تشتاق أن تغتسل كى تنقى من أدرانها وأوساخها، تحتاج أن تتوضأ كى تصلى فى محراب الأمل من جديد، وذلك ممكن بقراءة الكتب المقدسة، والأدب الراقى، والإنصات إلى الموسيقى الخالدة، بل بمجرد التأمل إلى إعجاز وردة ترتجف فى لحظة الشروق بعد أن تحممت بالندى.. نعم.. أيها الصديق.. نحن فى أمس الحاجة لذلك.. ولكن.. آه.. ملعونة هى الاستدراكات الداخنة التى تقاطع مسرى النسيم العليل، وملعون من يقــــاطع زقزقة "الحسون" كى يلقى نشرة أخبار.

هل نسير على الأرض وعيوننا محلقة فوق السحاب؟.. كيف نأمن الانزلاق فى الحفر أو السقوط بين أيادى قطاع الطريق؟ .. هل يمكن أن نمشى إلى الأمام وعيوننا ملصوقة فى خلفية رؤوسنا؟ .. كيف يتجاوز بيتهوفن صرخات الجوعى والمقهورين ودقات طبول الموت الذليل؟ .. هل ينقذنا الفكر الرهيف المضمخ بالفل والياسمين من هموم العيش على حافة المستنقع؟.. نستطيع أن نخلق العالم كما نتوهمه، ولكن هل نستطيع أن نعيش فيه؟

من المؤكد أنه حينما يعتل الجسد تفقد الحواس ذوائقها المعتادة ويسيطر الألم، فلا يصبح لحاسة السمع ذائقة التمييز، ويصير البصر غائماً أو غائباً، وتصبح الكلمات حمى من الهذيان، ومن المؤكد أن الإنسان الذى لن يجد رغيف العيش فإنه سوف يأكل الزهور دون أن يفكر فى تأملها.

أتصور أن المسألة ليست فيما نختار، وإنما فيما يمكن أن نخطو به خطوة تالية، مجرد خطوة واعية فى اتجاه صحيح للأمام، إن الاختيار ترف لا يقدر عليه من تملكت منه سطوة الواقع البشع، فبين كل هذا الدخان والرماد والدماء لا يبقى سوى تلمس مواقع القدمين، فالرؤية غائبة، والأصوات صراخ وتضرع، والآلام أشد من الاحتمال، وأمضى من أى فرحة طارئة تثيرها زقزقة عصفور أو حسون.

سطور "الزمن الجميل" تبدو وليمة شهية، بينما الأمعاء مشبعة بالدماء والنفايات وبالأسماك المتعفنة، وقد يراها البعض – وأنا لست منهم – مجرد مخدر مؤقت يحلق بالرأس لبعض الوقت، ولكنه يخفى عن عيونهم عيوبهم فى المرآة، أو قد يرونها مجرد قطرات من مسكن للألم لجرح أوسع من الأيام والأحلام، ولكننى أراها منديلاً معطراً على جبهة محمومة، أو محاولة لإحياء الموتى فى زمن يحترف قتل الأحياء.. زمن مات فيه الحياء نفسه.

أرجو ألا أبدو متجاوزاً – وقد تجاوزت بالفعل – إذا رأيت أن الفكر يجب أن يقلع عن العواطف والنبل والتجرد كى يصفع الواقع بقوة وقسوة، ويهز الخوف فى قلوب الناس، ويرفع السيف فى مواجهة الرداءة قبل أن يقدم باقة زهور لزمن كان جميلاً.. أقول قولى هذا وأنا مشفق عليك وعلى نفسى، فمن الصعب على صانع الحلوى أن يحرق أصابعه فى صناعة السيوف، ولكن .. بصراحة .. أين المذاق؟؟

ذلك الطفل محمد الدرة.. خلف ساتر ومن ورائه احتواه أبوه بين ذراعيه وهو يشير إلى آلة القتل كى تتوقف فلا تتوقف، يسقط الطفل مضرجاً فى دمائه بين ذراعى أبيه العاجز المذهول.. ذلك المشهد الذى تناقلته وسائل الإعلام العالمية لم يستغرق سوى لحظات، لكنه يطاردنى منذ ذلك الوقت فى صحوى ومنامى.. ليس مقتل الطفل – رغم فظاعته -هو المؤلم، وإنما ملامح الأب المشلول العاجز عن حماية فلذة كبده، إنها نفس ملامح ملايين الآباء الذين شلهم الفقر وعجزوا عن حماية أطفالهم من الموت جوعاً.. إنه قهر الرجال، والشعور بعبثية أفكار العدل والحب والنبل والفروسية.

صفوف الأسرى المصريين الذين اغتالتهم أصابع غادرة ضغطت على الزناد فى خسة ودناءة، مشهد آخر لا ينبغى أن يفارق العقل الجمعى حتى تجىء لحظة الحساب والعقاب، إذ يجب أن نواصل رواية الحكاية حتى لا تغيب فى دخان الدروشة الأزرق، يجب ألا ننسى أو نسامح مهما كانت مزامير داوود رائعة موحية، ليظل مزمور الأسرى عازفاً نازفاً أعلى من أوركسترا فيينا وعبقريات باخ وتشايكوفسكى وموتزارت.

إن عالم اليوم لا يحكمه الفلاسفة والشعراء وعازفو الكمان، وإنما يحكمه الجزارون وشذاذ الآفاق وقطاع الطرق، ولن يفل الحديد سوى الحديد، فالسلام لم يتحقق فى تاريخ البشرية بالمناشدات والاسترحامات والمبادرات والنوايا الطيبة، وإنما كان دائماً يتحقق بحد القوة التى تفرض على الخصم الاستسلام، والقوة ليست مجرد آلة الحرب وحدها – على أهميتها- وإنما هى إرادة التحرر الساعية إلى امتلاك أسباب القوة الشاملة.

وفى هذا الإطار تبرز أهمية نيوتن وفيثاغورث وأوبنهايمر، وتتجاوز أى أهمية أو فائدة لبيتهوفن أو هاندل أو زكريا أحمد، يصبح العلم وسيلة لا غنى عنها للخروج من مأزق الواقع المفروض، وتصبح الإرادة الحرة بنفس أهمية الماء والهواء، وهى أمور ممكنة ليست مستحيلة، وهى ليست مجرد خيار بين خيارات أخرى، بل فرض حتمى لا مناص عنه.

من المؤسف أن تستدرج السطور إلى صلادة الصخور، أن تتمزق بيوت الشعر على أسنة الحراب، أن يعلو صوت البوم على زغرودة المزمار، ولكن ذلك قدر جيل يولد من رحم معذب ويجب أن نقطع حبله الصرى فوراً كى يشرع فى السير على قدميه منذ اللحظة الأولى، فهذا الجيل من الآباء الجدد يجب ألا يقبل بعجز والد محمد الدرة، أو بالعار الذى تغلفه مزامير الجهل أو دعة ذل عيش العبيد.

كنا على جبهة قناة السويس لا نحلم بالعبور، وإنما نتدرب عليه، لم نكن نتضرع إلى الله أن يرسل صاعقة على الشاطئ الآخر، وإنما قذفنا بطلقاتنا فى صدور الأعداء بلا رحمة، وداست أقدامنا صاعقة ذلك الشاطئ، وقبل أن ننتصر على عدونا انتصرنا على خوفنا وترددنا، ورفضنا كل مزامير الوقوعيين من أبناء جلدتنا الذين كانوا يرون استحالة النصر، وحكمة أن ندفن رؤوسنا فى الرمال ونسلم للعدو شرفنا وماضينا ومستقبلنا.. لو اكتفينا بالحلم لكنا حتى هذه اللحظة نحلم بالعبور ربما من شاطئ النيل الغربى إلى شطه الشرقى!!

لقد تحدث السلاح أبلغ مما تحدث به كل الشعراء، وكان صوت انفجار دبابات وطائرات العدو أشجى من صوت أم كلثوم، وكانت أجساد الشهداء أكثر نبضاً بالحياة من أجساد الأغبياء الذين ارتضوا أن يدفعوا ذلهم ثمناً للحياة، وكـانت ابتســـامة رقيب فصـيلتى "رضوان" لحظة العبور، أكثر جمالاً وإيحاء من ابتسامة "الموناليزا".

أنا لا أنازع النوستالجيا أو سحرها، ولكننى صرت أمقت البكاء على الأطلال، وأكره الأغانى التى تشكو من عذاب الحرمان وقهر الحبيب، وليصفح لى الصديق الأعز جرأتى على زمن أعشقه كما يعشقه وأتمناه كما يتمناه، إلا أننى أتذكر دائماً مقولة بريخت: "إن الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة، لأنه يعنى الصمت على جرائم أشد هولاً"، وأظن أنه يتفق معى فى أن الحديث عن الأشجار لا يزال جميلاً، ولكن أين هى تلك الأشجار التى يمكن أن نتحدث عن جمالها؟

لقد انحسر الإبداع الذى كان واحة يلجأ إليها القلم كى يستظل بنخيلها السامق، ويبلل شفتيه بمداد ينابيعها المتدفقة، ويسترخى بدنه المرهق على رمالها الناعمة الدافئة، بل ولم يعد المقال يشفى الغليل، بعد أن ثار الشك فى جدوى الكتابة نفسها فى زمن يتطلب الفعل والحركة، زمن يفرض قبحه على ريشة الفنان فلا تنقش على اللوحات سوى كوابيس الواقع بألوان وخطوط تخدش النفوس المرهفة وتجرحها وتدميها.

وبالمناسبة كنت مؤخراً فى جاليرى لفنان عالمى كبير، ووجدت أنه وضع "فردة حذاء قذر" داخل إطار، حذاء حقيقى وليس خطوطاً فى لوحة.. لم يدهشنى زحام الزائرين حول هذه اللوحة المعبرة.

*عضو اتحاد الكتاب المصرى








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة