معصوم مرزوق

يوسف إدريس ياهوووه!

السبت، 25 سبتمبر 2010 08:26 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فارقنا هذا الكاتب العظيم فى أغسطس 1991، وهذه ليست مجرد كلمات فى ذكرى وفاته.
كان لابد أن يموت يوسف إدريس يوماً، ولكن يبدو أن بعض الحقائق تغيب عن الناس فى زحام الحياة، حتى إذا قابلتهم اندهشوا أو ادعوا الاندهاش ودقوا الأكف وهزوا الرؤوس متعجبين !.

هكذا قرأنا لمن أبدى أسفه لموت الصديق، وبكى بدموع التماسيح رغم أنه كان أكثر الناس افتراءاً وقسوة بالحق وبالباطل على هذا الصديق الفقيد، ثم من يتمسحون فى رداء الراحل ويرددون فى نسوك أنه تلاميذ له مخلصون، ومن يتذكر أن المرحوم قد سلم عليه ذات مرة وقال له: إزيك!، ومن يبكى الثقافة التى تيتمت والحضارة التى أعقمت، والأيام التى اسودت، وتمتلئ الصفحات بطقوس الدفن المرعية منذ عهد مينا موحد القطرين، وهذه الطقوس كما نعرف تنتهى بمسح المسلات التى بها أى رائحة لذكر الراحل العزيز!.

لا ياسادة!.. إنها مصر.. مصر التى لو حركت فيها أى حجر، لوجدت خلفه موهبة، فلا تسحبوا عباءة عجزكم وشللكم على الوادى، فهو الوادى الخصيب الولود المعطاء، اهدموا هذا السرادق الزائف فوراً، لأن يوسف لو كان موجوداً لسخر منكم وهزأ بكم وكتب عنكم بدلاً من " أرخص الليالى " قصة عن " أرخص العزاء" ! ..

لا أدرى لماذا لا نحاول بدلاً من إضاعة الوقت فى البكاء والندب واللطم أن نفعل شيئاً مفيداً ؟، لقد بكوا شجاعة يوسف إدريس دون أن يتمثلوها، تباروا فى ذكر مواقفه الصادقة مع رؤياه بينما يتسابقون كل يوم فى مباريات التملق والنفاق، ثم يتساءلون لماذا لم يحصل يوسف على جائزة ؟، وأغلبهم كانوا يتجمعون خلف الأبواب لسد الطريق على هذه الجائزة حسداً وطمعاً، لقد أكلوه حياً ثم يتاجرون اليوم فى تركته، لكننا نرفض أن يستخدموا فى آلاعيبهم تلك الأرض الطيبة التى أنجبت الآلاف من المخلصين الصادقين، فهذه الأرض لا زال فى أحشائها نماذج لا تقل عن يوسف إدريس، بل وتتجاوزه، لأن هذه هى سنة التطور التى آمن بها يوسف نفسه ودافع عنها بكل ما يملك من قوة .

لنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يحدث إذا عاد الكاتب يوسف إدريس إلى الحياة فجأة، ولماذا نتخيل؟، لماذا لا نفعل مثله ؟ - أعنى أن نتقمصه ونتمثله أو نحاول التفكير بطريقته - لقد أكتشف المستشفى فى لندن مثلاً أنه أرتكب خطأ بشعاً، فقد نقلوا أحد المرضى مكان يوسف، وأن مريضاً آخر هو الذى نقل جثمانه ويرقد حالياً فى مقبرة بالشرقية، وأن يوسف أرتد وعيه وسوف يعود إلى القاهرة خلال أيام.

ستخرج كل الصحف الصباحية فى اليوم التالى بمانشيتات عريضة بالخبر السعيد، وصورة يوسف تتصدر الصفحات الأولى بإبتسامته المرحبة بالحياة، وستجد ذلك الكاتب اللولبى يكتب فى عاموده اليومى : " هكذا، مرة أخرى يخدعنا يوسف إدريس، يسخر منا فى الحياة ثم يهبط علينا من الموت، لا أستبعد أنه أتفق مع إدارة المستشفى الإنجليزى على هذا المقلب لمجرد السخرية منا، وجلباً لمزيد من الشهرة والذيوع، ولعلكم تذكرون ياقرائى الأعزاء أننى الوحيد الذى لم تنطلى عليه هذه المحاولة، فقد كتبت فى هذا العامود أن يوسف إدريس لم يمت، وأنه لا يزال يعيش فى وجدان كل من قرأ له، واليوم أقول ليوسف العائد من الموت: إلعب غيرها، كان غيرك أشطر ! ".

بينما سيكتب ذلك الكاتب الحاقد أبداً حتى على نفسه، أنه وإن كان قد كتب بعد خبر الوفاة الكاذب أن يوسف كان أكثر الناس إستحقاقاً للجوائز، فأننى كتبت ذلك تحت تأثير الصدمة التى تفقد الإنسان الميزان الدقيق للأمور، وأنتم تعرفون أننى كنت أكثر المعارضين لسنوات طويلة فى كل المجالس التى تناقش موضوع الجوائز، ورفضت إعطاء صوتى لمنحه الجائزة، لأننى أكتب أحسن منه مئة مرة، ولكن ماذا نقول للحظ وللمحظوظين ؟، وأننى اليوم أعلنها بصوت لا خوف فيه أنه يجب سحب الجائزة التى تم تقريرها ليوسف إدريس، خاصة بعد العملة السوداء التى عملها ! ".

ثم يعود يوسف إدريس لأرض الوطن ويكتب مقاله الأول، إلا أن رئيس التحرير لأسباب غير معروفة يرفض نشر المقال، فيشتاط الكاتب غضباً ويذكره بما كتبه عنه أيام وفاته !، ولكن رئيس التحرير يقول بلغة إعتذارية مقبولة : للضرورة والكرسى أحكام يا يوسف ! .. فيذهب الكاتب الثائر بمقاله إلى كلية الطب ويعلقه على إحدى مجلات الحائط التى يصدرها الطلبة، وتقول المقالة بالنص :

الموت أرحم يا ناس !!
نعم.. الموت أرحم، لكن الحياة أحلى وألذ، فخلال فترة موتى وجدت فرصة طيبة للحوار مع نفسى بعيداً عن هذه الزيطة التى يسمونها أحياناً أدباً، أو سياسة، أو كلشنكان (كل شئ كان بالعربى الفصيح)، وقد أتيحت لى الفرصة أن أقرأا كل ما كتب بعد موتى المزعوم، لذلك قررت أن أواصل إختفائى فى سرداب الموت كى أضحك على مهازل الأحياء، وكلما سألتنى الممرضة الإنجليزية المنضبطة عن إسمى، كنت أقول لها بثبات: "جون سميث"، وأضحك فى كمى لأن هذا الرجل هو المدفون الآن فى قريتى بالشرقية، وهو الذى كتبت فيه كل هذه المقالات الحدادية العصماء، وسار فى جنازته العظماء والكبراء، بل وبدأت أتقصى حكاية هذا المريض الإنجليزى المحظوظ، فتبين لى أنه رجل نكرة كان يعالج من إدمان الخمر وفقدان مؤقت للذاكرة، إلا أننى عرفت بالبحث الدقيق أن جد هذا الرجل كان ضمن الحملة الإنجليزية على مصر وقتل فى التل الكبير ودفن فى مكان ما بمحافظة الشرقية، ربما لا يبعد كثيراً عن المكان الذى دفن فيه حفيده !.

كان من الممكن أن أستمر فى هذا المخبأ لفترة أطول، إلا أننى لم أطق صبراً بعد أن وجدت أنهم زودوها حبتين فى مسألة تأبينى، فأنا بالتأكيد لست هذا الرجل الذى كتبوا عنه هذه المعلقات، وقلت لنفسى: ربما يكتبون عن الأخ جون سميث، فأنا لم أكن نبياً ولم أدع أننى فوق مستوى البشر، بل أنا إنسان تملأنى الأخطاء من ساسى لراسى، وخشيت أن تحاسبنى الملائكة على كلامهم الذى حاول أن يصل بى - حاشا لله - إلى مصاف الآلهة، وحزنت وملأنى الغضب الفلاحى الذى لم يفهموه فى شخصيتى، فأنا لم أكتب يوماً من برج عاجى، وإنما كان مكانى المفضل هو المصطبة الشعبية التى يخرج فيها الكلام تلقائياً وطبيعياً بلا تكلف أو إصطناع، وفى الحقيقة لم أجد فائدة لما كتبته، والدليل على ذلك هو ما قرأته عن نفسى بعد موتى، لقد كتبوا بالطريقة التى كرهتها وقاومتها طول عمرى، بلا صدق أو حرارة أو حتى معنى ! ..

ربما كان أرحم لو قرأت نقداً عنيفاً من أولئك الذين اعتادوا إنتقادى فى كل مجلس سرى أو علنى، لأنه فى ذلك يكونون أكثر إتساقاً مع أنفسهم وأكثر صدقاً مع الآخرين، وكنت سأعتبر ذلك أحسن تكريم لى بعد وفاتى، كذلك أذهلتنى تلك الآراء قصيرة التيلة التى ادعت أنه بموتى ماتت الثقافة ومات الأدب فى مصر، وكأنهم لا يعرفون أنهم بذلك يشتموننى لا يكرموننى، فإذا كنت أنا واحداً من قيادات الفكر والثقافة فى مصر لفترة تزيد على ربع قرن كما ادعوا، ثم تموت الثقافة بموتى، فأن معنى ذلك هو أننى فشلت فشلاً ذريعاً فى آداء أى دور، وأننى - وهم معى - عجزنا عن أن نبذر فى أرضنا الخصيبة بذوراً تكبر معنا وتستمر بعدنا، فما قالوه إتهام لى ولهم، وليس تكريماً ولا تأبيناً ولا دياولو !!.

لذلك كله ولأسباب عاطفية بحتة قررت أن أعود للحياة، رغم شعورى العميق بالقرف، فقد كنت أريد أن أنبه الناس للزيف والإدعاء الذى نعيش فيه، والمستنقع الذى نتحرك فيه ونتبادل الأكاذيب والنفاق، فأنا لست أعظم الكتاب فى تاريخ مصر لسبب بسيط وهو أنهم كتبوا قبل ذلك منذ ميلاد الحروف العربية وعند موت أى شاعر أو داعر أنه الأعظم والأكبر والأضخم، وكل الصفات الحميدة على وزن أفعل، ثم دارت الأيام، فإذا بهم يكتبون عن نفس الشاعر أو الداعر كل الصفات الخبيثة - أيضاً - على وزن أفعل !.

ياعالم تحشموا، ألا تريدون أن تتغيروا يوماً ؟، هذه الرومانسية العبيطة التى أودت بنا فى مائة ألف داهية ولا زلتم تتعاطونها، ألم يكن ذلك الكاتب الحلزونى الذى كتب فى عاموده كلمات تقطر حزناً بترولياً رثاء لى، هو نفسه الذى كتب فى أعقاب وفاة عبد الناصر قصائد من التمجيد، ثم لم تمر شهور حتى بدأ يكشف مساوئ الرجل ولم يتوقف حتى الآن عن شتمه فى كل صباح ؟.

رفضت أن أستمر ميتاً فى هذا الإطار الهزلى، قررت أن أعود إليكم كى ألطخ أناقتكم ولمعتكم الكاذبة بطين قريتى الصادق، وأفضح تهافتكم وخوءاكم، وأخرج لكم لسانى كما اعتدت على مر حياتى، لقد عدت للحياة فموتوا بغيظكم ! .
******
ظهرت الصحف اليومية فى اليوم التالى وبها الخبر الآتى:
" مجنون يظهر فى شوارع القاهرة ويدعى أنه يوسف إدريس، ويقوم بنشر مقال غير مقبول فى إحدى صحف الحائط بكلية الطب، ومن المؤسف أن بعض الناس قد صدقته، لذلك وجب التحذير، ولن نسمح لأى مغرض أن يشوه ذلك الإسم العظيم الذى نعتز به والذى لن تنجب مصر مثله فى يوم من الإيام "
…….
كما قلت، ذلك ليس تأبيناً .. لذلك أختتم ما سبق بكلمة كان يوسف يرددها كثيراً:
" وإيه يعنى ؟… طــظ !! "…


* عضو اتحاد الكتاب المصرى.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة