تشكلت ذائقتى فى زمن الفن الجميل، والتقطت أذنى أول ما التقطت إبداعات ذلك الزمان الذى أنجب كبار الموسيقيين والمطربين الذين عرفتهم الذائقة العربية.
كان لى ولأقرانى فرصة أن نعايش ذلك الزمان، حينما كانت الآه تصعد من القلب لتصل إلى القلب مباشرة، كأنما هى تطلع من ألم حقيقى لا مفتعل كما يحدث كثيرا هذه الأيام.
كانت أصابعى الصغيرة وهى تتوق إلى زر المذياع لتشغيله تبحث لأذنى ولروحى عن ما يزودها بطاقة الحب وطاقة الانفتاح على الحياة، أم كلثوم، عبد الوهاب، محمد القبنجى، ناظم الغزالى، سليمة مراد، صباح فخرى، عبد الحليم، نجاة الصغيرة، وردة، فيروز، وديع الصافى، سعاد محمد، نور الهدى، محمد عبد المطلب، فيلمون وهبى، الرحابنة ومحمد فوزى وغيرهم شكلوا فى روحى معنى الموسيقى، حينما يستطيع الموسيقى أن يحفر عميقا فى الروح ليصل إلى أعمق ما فيها وليصوغ حبه للحياة عملا إبداعيا من أجل الجمال، وحينما يستطيع الصوت أن يغنى من رفعة ألمه ليزيد فى بحته تردد الصدى، صدى الألم وصدى الفرح وصدى الحب وكل معنى إنسانى جميل.
كنا فى زمن الانكسارات العربية، ولكن الموسيقى وحدها كان فى وسعها أن تعطى مدادا للروح كى تبتسم للحياة، فى ذلك الزمان كان ينطلق صوت حب الأرض فيؤجج فينا الرغبة فى أن نحيا داخل تلك الأرض، كانت الأغنية قادرة أن تصل إلى أعماقنا فتومض فيها بريق الحياة.
على تلك القيم الجميلة التى حملتها أغنيات ذلك الزمان تربت ذائقتى وتشربت روحى، وعندما أستمع الآن إلى أغنية من ذلك الزمان تعود لروحى بريقها وأومض رغبة فى أن أصنع أشياء جميلة تكمل ما ابتدأه راحلون مبدعون رحلت أجسادهم وتركوا آثارهم فى وجداننا الحى وذاكراتنا.
حينما أمسكت العود للمرة الأولى عرفت قدرى، وعرفت أننى عند هذا الزمان سأحيا مطولا، وظلت أذنى تحاول أن تتبع تلك الموسيقى.
تلك كانت البداية.
محمد عبد الوهاب كان نقطة مضيئة لأفق ما زلت أتتبعه بشغف وبتقدير كبيرين. محمد عبد الوهاب أحد منجزات الدنيا العظيمة، فهو لم يكتب اسمه فى تاريخ مصر الفنى فقط، بل اجتاز ذلك ليحقق حرية موسيقية فى التعامل مع ما كان يعد قوالب وأمثلة راسخة لا يمكن المساس بها.
محمد عبد الوهاب ليس مجرد اسم يمر فى تاريخ الفن، هو حالة إبداعية حقيقية ولدت لتكون بيننا ولتصنع دقائق حياتها فى وجودنا.
والحديث عن هذه الحالة الإبداعية يحتاج لمداخل عديدة، فهو الموسيقار الذى أسس لصيغة مختلفة فى زمانه، وهو المغنى الذى تعيش أغانيه فى داخل أفراحنا وأحزاننا، وهو الممثل الذى ربما كان أول من عمل على فيلم غنائى. وإلى جانب ذلك هو المبدع والذواق وصاحب الرؤية الفنية الواسعة، فهو يخطط دائما للمستقبل، ولأجل هذا فقد عاش فنه لأنه لم ينظر فقط إلى اللحظة الآنية، بل عاش وفى نيته أن يحفر اسمه فى مستقبل لن تراه عينه.
محمد عبد الوهاب الأسطورة التى صنعت نفسها بنفسها، علامة من علامات الفن، وصيغة خاصة فى التشكيل والبناء، ملحن له أسلوبه الخاص الفريد، وحنجرة لا مثيل لها فى حلاوتها وصفائها.
وهو واحد من ألمع الأسماء التى أسست لنفسها بقوة فى تاريخ الفن، وتركت بصمة كبيرة ستظل لأجيال وأجيال..
محمد عبد الوهاب شخصية فريدة بتشكيلها الفنى والثقافى والاجتماعى، أتيح له ما لم يتح لغيره من فن ومجد وشهرة ونجاح ظلّ يرافقه حتى آخر أيام حياته.
كيف استطاع هذا المبدع أن يطوع الزمن لصالحه ولاسمه ومكانته فى المجتمع والفن؟ درجة حرصه العالية على فنه، تأثره وتأثيره، نزواته فى الفن، ضميره الموسيقى، قيمته، إضافاته، ولعه، والمآخذ على فنه أن تسليط الضوء على كل هذه الصفات محاولة غاية فى الصعوبة، لكنى سأحاول المرور من باب التحليل والاحترام لقيمة هذا المبدع.
عينه التى كانت تراقب كل شاردة وواردة حوله، وكان يضع محل اهتمامه كل ما يقدمه أقرانه وزملاؤه وكل جديد فى عالم الفن.
يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وكذلك الحديثة منها، ويطلع على كل فلكلور شعبى، وفى الوقت نفسه يستمع إلى التراث العربى والموسيقى العربية المعاصرة.
كان يشعر بالغيرة عند سماعه عملا موسيقيا متميزا، وهى غيرة إيجابية مبدعة لأنها تنبع من حرصه أن يكون هو صاحب الإضافة وهو المبدع، قد تأخذه أحيانا هذه الغيرة إلى منطقة لا تليق بمبدع لكن يعود منها دوما بما يغفر له، اذ يعود مصحوبا بعمل متميز وجديد يملأ الزمان جمالا، وكان لا يتوانى عن الاتصال بمبدع العمل الذى أعجبه حتى وإن كان مبتدئا ليهنئه وليشعره بأن هناك من يتابع عمله، وكانت هذه ميزة لدى عبد الوهاب، وفى الوقت نفسه كان يريد دائما أن يعرف كيف يفكر الآخرون. كان يريد الزمان كله، والأصوات كلها، والجمهور كله، وكذلك الاهتمام من قبل النقاد.
لو تكلمنا عن حنجرته فنحن نتكلم عن (أعظم حنجرة أودعها الله فى إنسان) كما يصفها الموسيقار رياض السنباطى. فعبد الوهاب امتلك هبة ليس لها مثيل عربيا من حيث حلاوة ونقاء ونفاذ حنجرته وعلاقتها بعقله وبجهازه السمعى القوى، فكان يفكر وسمعه يقرر الدرجات الصوتية وحنجرته تنفذ.
إن ما كان يغنيه عبد الوهاب فى بداياته لغاية بدء اهتمامه بالموسيقى الغربية يعد من أعظم ما أنجز فى غنائنا العربى.
إن ما غناه عبد الوهاب ليومنا هذا يعد من أصعب ما أنجز على مستوى كل الملحنين والمطربين الكبار، فتكنيك حنجرة عبد الوهاب وجهازه السمعى وقدرته على التحكم بهما جعلته أعظم مغنى العصر، وهذه الميزة يعترف بها حتى من يخالفونه فى توجهاته التأثيرية بالموسيقى الغربية.
مساحات حنجرته تعدّ مثالية لأى مطرب يريد أن يكون عظيما فهى خلاصة النتاج الإنسانى العربى والعثمانى والغربى تجده أحيانا أحد أساطين الطرب وأحيانا أخرى أحد مغنى الغرب الكبار.
لم يسلك عبد الوهاب خطا فنيا واحدا، بل سار فى خطوط متوازية لكنه كان يسير فيها كلها معا، فعمله على التلحين لم يأخذ منه الغناء وعمله على الغناء لم يأخذ منه التمثيل فى الأفلام، فقيس المجنون الذى أحبته ليلى أحبها هو أيضا وامتلأ سحرا بكلماتها، لذلك شغل الشعر عنده أيضا محطة كبيرة فى حياته تذوقا، وكانت حواراته الدائمة مع الشاعر أحمد شوقى ونصائح أمير الشعراء له الذى أصبح جسرا لعالم البكوات والهوانم، وأيضا طريقه لولوج اللغة الأجمل والرقى الأعلى فى النصوص ومنحه الحضور اللائق بموهبته وفتح له عالم العلاقات مع الأقلام المتميزة التى كان عبد الوهاب يجيد العلاقة معها، فكان فناننا المبدع يسمع من أحمد شوقى جديده فيبدع الألحان.
الثقافة الشفاهية صقلت شخصية محمد عبد الوهاب وقدمتها فى قالب مختلف، فرغبته فى الاطلاع الواسع وحب المعرفة شكلا حالة إلحاح على نفسية هذا الفنان، ومن عرفه عن قرب كان يعرف رغبته الدائمة التى تشبه الفضول فى معرفة كل شىء.
وفى حياة عبد الوهاب محطات عظيمة، شكلت انعطافات مهمة فى مجمل تاريخ الموسيقى العربية فى عدة عقود مضت، فالجندول محطة، وكليوباترا محطة، والوردة البيضاء محطة، ومجنون ليلى محطة وما صنعه بموهبته لحناجر أخرى شكل عوالم لهذه الحناجر، فعبد الوهاب كان علامة فارقة ليس على صعيد حنجرته فقط، بل حتى فى حياة فنانين كثيرين مثل العظيمين الراحلين كوكب الشرق أم كلثوم والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة ووردة الجزائرية وكثير غيرهم، علما بأن علاقته مع سيدة الغناء العربى وأن أحدثت ضجة كبيرة ومنحت عدة صفات وألقاب كلقاء السحاب، لكن الصراع بينهما كان واضحا على كل الألحان، وخصوصا بينما كان يريد أن يقدم نفسه كموسيقى ند لمغنية عظيمة، فالعارف فى مجال الموسيقى أنه يريد أن يبصمها ببصمة وهابية، وتريد هى أن تبصم عمله كلثوميا، وهذا لم يكن لصالح العمل المشترك بينهما.
ومع ذلك فليس باستطاعتنا على سبيل المثال أن نتحدث عن سيدة الغناء العربى من غير أن نتوقف مطولا عند عمل عبد الوهاب على حنجرتها، وليس باستطاعتنا أيضا أن نتوقف مع عبد الحليم حافظ من دون أن ننظر مليا مطولاته التى أبدعها عبد الوهاب وكذلك نجاة الصغيرة التى يعد مشوارهما معا مثاليا فى الإنجاز المنسجم وغير المبالغ فيه، أما عمله مع وردة الجزائرية فكان يعطيها دوما أكثر مما تتمنى، وحسب علمى ومتابعتى لم يفشل عبد الوهاب فى إعطاء كل حنجرة لبستها الحقيقية ويظهرها بكمال البريق، وبحبه للبقاء كانت عينه وسمعه باتجاه المستقبل دوما، تجد مقدمات موسيقية فى غاية التعقيد والجمال والتجديد والنقلات غير المألوفة سمعيا، وحين يبدأ الغناء فى العمل نفسه تجد كل الأرواح تحلق صوب السماء مع هذا الملحن الذى يخشى أن (يحلق فى السماء ويركب البحر دوما).
فى الأغانى الطويلة التى صنعها عبد الوهاب، يمكننا أن نلاحظ مهارات عالية فى صياغة الجملة الموسيقية، ولو حصل أن جردنا اللحن من الكلمات لاكتشفنا أن اللحن نفسه بإمكانه أن يعيش فى صيغته المجردة من الكلام لأن بناءه الموسيقى يأخذ بعبد الوهاب بصفة المؤلف الموسيقى أكثر من الملحن، وهذا ما كان يضعه فى خانة الملحنين من ذوى النزعة التصويرية لأنه يرسم للكلمة إحساسها الموسيقى ويخلق لها إيقاعا ثانيا، بإمكانى أن أسميه فضاء متكاملا فى الجمال، فهذا الموسيقار العظيم كان يذهب إلى المشاعر فيبلورها فى صيغ فنية راقية، فالحب عنده يأخذ أشكالا موسيقية متعددة، تجعله ينقل حالة المحب ما بين ارتفاع وهبوط، ونستطيع أن نتلمس هذا موسيقيا، فالموسيقى التى يكتبها عبد الوهاب قادرة تماما على اختلاق حالتها لدى المستمع، أى أنها قادرة على تجسيد نفسها صوريا فى ذاكرة الأذن، إن جانب المؤلف الموسيقى لدى عبد الوهاب كان حاضرا دوما، لذلك كتب عشرات القطع الموسيقية الآلية لأنه يريد أن يمسك بزمام عالم الموسيقار من كل الجوانب، ولأن موهبته تساعده فى ذلك.
ويتنقل عبد الوهاب فى أغانيه الطويلة بين مقامات موسيقية متعددة، كما أنه يتنقل بين أطوار لحنية وصيغ مختلفة، فالجملة عنده ناجزة تماما بحيث تستطيع أن تكون صيغة مستقلة، وبمعنى آخر فإنه يمكننا تقطيع لحن عبد الوهاب الطويل فى صيغ مختلفة فنشعر فى كل جملة موسيقية بحياة الموسيقى نفسها، فالموسيقى عنده تعيش وتحيا لأنها تجسد أفعال الحياة، وهى بالتالى تأخذ من الحياة وتنحت منها لتضيف لها.
الصيغ التى أسس لها عبد الوهاب فى الغناء العربى صيغ مبتكرة وغاية فى الجمال، وهى صيغ خلاقة.
إن نجاح عبد الوهاب الطاغى جعل الكثيرين يتربصون باقتباساته للحد الذى دفع ببعضهم إلى كشف هذه الاقتباسات وبثها عبر الإذاعة بين العمل المنجز لعبد الوهاب وبين الأعمال الموسيقية الكلاسيكية الغربية أو من موسيقات الشعوب التى كان شديد الاطلاع عليها، وعقدت عدة مقارنات بين أصول تلك الأعمال الموسيقية وألحان عبد الوهاب، لكن لو شطبنا من تاريخ عبد الوهاب كل الأعمال التى بدأها باقتباس، سنجد أن ما تبقى هو الذى أسس أركانا للجمال الذى زرعه عبد الوهاب فينا، والذى أعتقد أنه سيتواصل طويلا.
لا أريد أن أقول إن الزمان لن يعطينا عبد الوهاب آخر لكنى أؤمن بما قاله هو (أن الفنان بصمة لا تتكرر).
ولأنه بصمته لن تتكرر فقد كان تأثيره بالغا على كل الملحنين الذين رافقوه أو عاصروه وحتى الذين اختلفوا معه كانت روحه مهيمنة على الكثير منهم، وحين كان يقدم إيقاعا جديدا، كنا نرى هذا الإيقاع ينتشر فى معظم أعمال الملحنين العرب، وكذلك نقلاته غير المألوفة، وفى بداياتى كانت أصعب الأعمال التى تأخذ منى جهدا كبيرا فى تقديمها موسيقيا هى أعمال محمد عبد الوهاب لأنها تحتاج إلى خبرة سمعية عالية، أما غناؤه فقد ظل لسنوات طويلة مضت وحاضرا شهادة استثنائية تمنح للصوت الذى يجيد أداء ألحانه الخاصة لحنجرته.
لقد أحببنا عبد الوهاب كما أحب هو نفسه وكما كان يريد لها أن تُحب، كل زملائه كان لديهم ملاحظات عنه لكنهم كانوا يعشقونه، وكانوا يتهمونه بالسرقة الفنية، وفى الوقت نفسه ما أن يكلمهم مكالمة صغيرة حتى تنبت لهم أجنحة من الفرح لأن عبد الوهاب كرمهم بمكالمة تلفونية.
هكذا كان عبد الوهاب وهكذا نحن نقدره.
وعندما أستمع إلى صوت عبد الوهاب أستعيد مرحلة عمرية رائعة، أعيش فى لحظات طوفان مع الجمال، وأغنى معه من قلبى وفى كل وجدانى، إذ لا يطرب عبد الوهاب فى ألحانه وصوته أذنى فقط، بل يطرب الأعمق فى روحى، فأروح أدندن معه "مضناك جفاه مرقده" و"جفنه الذى علم الغزل" و"جارة الوادى" وووو..
مجتزأ من كتاب فى طور الإعداد عن قمم الموسيقى والغناء
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة