صديقى مهندس الديكور الفنان الرائع ناجى مأمون الشناوى يؤمن بصدق هذه العبارة لدرجة أنه يجعلها المفتاح الرئيسى فى تلخيص العلاقة السائدة اليوم بين نظام الحكم فى مصر والشعب المصرى، وقد ذكر علماء النحو- ومنهم سيبويه – هذه العبارة "اتسع الخرق على الراقع" أو فى صياغة أخرى "اتسع الفتق على الراتق"، وعموما هو مثل يضرب فى الأحوال التى يفسد فيها أمر من أمور الناس بحيث يخرج هذا الأمر عن سيطرة أولى الأمر لدرجة لا يمكن تداركها، أو إذا استشرى الفساد فى أحوال الناس وفات الوقت لتدارك الأمر، فعم الفساد وباتت أحوال الناس كالخرق الواسع فى الثوب الذى لم يعد فيه مكان لرقعة جديدة يستعين بها الراقع على ترقيع الخرق الذى اتسع، أو كما جاء فى شعر ابن حمام الأزدى:
كنا نداريها وقد مزقت / واتسع الخرق على الراقع
كالثوب إذ أنهج فيه البلى / أعيا على ذى الحيلة الصانع
والخرق الذى اتسع فى الثوب المصرى، ولم يعد باستطاعة نظام الحكم المصرى ترقيعه، كما أنه لم يعد قابلا لأى رقع جديدة لسده، هو "التجمهر" الذى ساد فى الآونة الأخيرة، فما أن تفتح صحيفة ما حتى تطالعك أخبار "التجمهر" فى عاصمة البلاد ومن أدنى البلاد إلى العاصمة إلى أقصاها، فمن "تجمهر" لعدد كبير من أهالى قرية "زيان" مركز "بلقاس" بالدقهلية والتى شهدت كارثة غرق أربعة زهرات من الأطفال داخل مصرف 2 الموازى للطريق الدولى إلى "تجمهر" عدد كبير من أهالى مدينة "محلة الدمنة" بالدقهلية أمام مقر الوحدة المحلية بالمدينة، احتجاجاً على الخطابات التى أرسلتها لهم الوحدة، للمطالبة بسداد إيجارات عن الأراضى التى بنوا عليها منازلهم، ومن "تجمهر" لأهالى قرية "الدهتمون" بمركز أبو كبير بالشرقية أمام ديوان عام محافظة الشرقية للمطالبة بنقل مستودع أنابيب داخل الكتلة السكانية الذى يمثل خطورة على حياتهم إلى "تجمهر" عدد كبير من أهالى محافظة "مطروح" أمام مبنى المحافظة احتجاجا على قيام مستشفى مطروح العام بطرد مريض من المستشفى، حيث طالب الأهالى المحافظ بالتدخل لإنقاذ المريض، و"تجمهر" عدد كبير من أهالى قرية "منشأة رضوان" التابعة لمركز "أبوكبير" بمحافظة الشرقية أمام سرادق الاحتفال بجمال مبارك أمين السياسات بالحزب الوطنى الحاكم مع خمسة من الوزراء فى محاولة لعرض مشاكلهم، وأحوالهم المعيشية الصعبة، مطالبين بتخفيض ديون المزارعين المستحقة لـ"بنك التنمية والائتمان الزراعى"، ووضع سياسة زراعية جديدة لحماية المزارعين من تقلب أسعار المحاصيل، وفشلت قوات الأمن فى تفريقهم.
غير أن هذه التجمهرات كلها اتسمت بعنف أقل مما حدث فى "تجمهر" جماهير كرة القدم وعنف المتجمهرين الذين حطموا بوابات النادى الأهلى، واقتحموا حمامات السباحة بالنادى وروعوا الأعضاء وحطموا السيارات التى تصادف مرورها فى هذه المنطقة، ثم انتقال المتجمهرين باتجاه نادى الزمالك للانتقام، فانطلقوا عرايا فى الشوارع القريبة من نادى الزمالك واحتلوا الشوارع الرئيسية فى عنف يشبه كثيراً العنف الذى كان فى "انتفاضة الجوع" فى 18 و19 يناير 1977 التى أطلق عليها الرئيس "السادات" اسم "انتفاضة الحرامية"، لكن هذه "الانتفاضة الكروية" كانت أشد قسوة على نفس كل مواطن يعنيه أمر هذا الوطن، وسوف يقول عرابو الاستوديوهات التحليلية الكروية وكهنة الفضائيات الكروية أن ما حدث كان بسبب مباراة فى "كرة اليد" ولم يكن بسبب "كرة القدم" ليدرؤوا الشبهات عن أنفسهم، وأنهم ليسوا هم من يغذى التعصب بين جماهير الأندية، وهم محقون فى ذلك، فلا يمكن لمقدم برنامج كروى أو محلل كروى أو ناقد رياضى مهما كان اسمه، يستطيع أن يشحن كل هذه الجماهير بكل هذه الطاقة الرهيبة من الغضب والكراهية.
كما أنه لا يمكن لأى آلة إعلامية مهما كانت كفاءتها أن تشحن كل هذه الجماهير بكل هذه الطاقة الرهيبة من الغضب والكراهية التى بدأت تستشرى فى مختلف فئات الشعب المصرى بكل هذا العنف والغضب والكراهية، وإن كانت الآلة الإعلامية (رياضية أو غير رياضية ورقية أو فضائية) أحد الأسباب فى شحن فئات الشعب بكل هذه الطاقة المدمرة التى سوف تكون بمثابة ثمار الحنظل التى سوف يجنيها نظام حكم اعتمد فى تثبيت قوائمه على أرض الوطن بالبعض من لصوص (رجال) الأعمال والبنوك وكبار موظفى الدولة ومسئوليها من المرتشين ومستغلى النفوذ للحصول على مكانة اجتماعية لا يستحقونها ونهب ثروات الشعب بلا رحمة أو وازع من ضمير، فسرقوا اللقمة (مجرد اللقمة) من أفواه الناس ووزعوا البطالة بالعدل على أبنائهم، فتحول الشباب تغييب وعيهم لابتعاد أى احتمالات لرؤية ما لمستقبلهم، وأصبحت البطالة هى الراية التى يحملها شباب الوطن يرفعونها فى مدرجات الكرة يهتفون لفريق كرة القدم فقد يحقق لهما "نصرا" مزيفا لا يستطيعون تحقيقه فى حياتهم العملية، ولم يعد فى مقدور أحد أن يحقق لكل هؤلاء الشباب "نصرا" ما يأخذ بيدهم إلى المستقبل سوى فريق الكرة الذين اختاروا تشجيعه.
وأصبح مقدم برنامج كرة القدم والصحفى الرياضى هو القائد الشعبى الذى يأخذ بيد هؤلاء الشباب إلى مستقبل يعده بالملايين لو أصبح لاعب كرة، فلم يعد أحد من الشباب لاعبى كرة القدم يعانى من البطالة، بل أصبح الشاب لاعب الكرة هو الوحيد الذى يضمن مستقبله ويحصل على الملايين والشهرة و"المجد"، مع أن لاعب الكرة ومقدم البرنامج الكروى والناقد الكروى والمحلل فى الاستوديو التحليلى يحصلون على الشهرة والمجد والملايين من جيوب هؤلاء الشباب العاطلين الذين تطحنهم البطالة، فهم المستهلكون الحقيقيون لسوق كرة القدم الذى لم يعد مجرد سوق محلية، بل أصبحت سوقا عالمية بعد أن عولمته العولمة، ونحن هنا لا نلوم على لاعبى الكرة ولا على مقدمى برامج الكرة ولا نقاد الكرة، فهذه هى طريقتهم للحصول على "أكل العيش" الذى أصبح عصيا على كل فئات الشعب.
لا يهمنى هنا أن أتهم جمهور أحد الناديين أو جماهير أى ناد آخر بما حدث من عنف وبداية حرب الشوارع، فكل من هذه الجماهير الغاضبة من الشعب المصرى، وكلهم أبناؤنا الذين أوصلهم إلى هذه البداية نظام حكم ظالم، قاسٍ وغير إنسانى، استطاع تغييب رؤية حقيقية لهؤلاء الشباب لاحتمالات مستقبلهم، إنها بداية حرب الشوارع التى كانت كرة القدم هى القشة التى قصمت ظهر هذا النظام الذى لم يستطع أن يقدم لشباب هذا الوطن إلا البطالة وكل مشاعر الكراهية والغضب والعنف، نظام حكم تحول قادته إلى "بتوع كورة" الذى بدا كما لو كان هو المسمار الذى خرق الثوب فاتسع الخرق على نظام الحكم / بتوع الكورة، ولن يجنى ثماره المرة إلا هم.
• كاتب وروائى مصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة