استكمل ما بدأته منذ أيام بالحديث عن شخصية إبراهيم باشا ابن محمد على والى مصر، وذلك من خلال مذكرات نوبار باشا الصادرة من دار الشروق ..
من أكثر صفحات الدراما فى حياة إبراهيم باشا ووالده محمد على ، تلك التى تتعلق بالصراع بينهما على حكم مصر ، ونشب هذا الصراع فى السنوات الأخيرة من حكم محمد على، والتى تمكن فيها المرض من الاثنين.
كان محمد على كما تشير مذكرات نوبار باشا يعلم طموح ولده، وكان لا يتمهل فى أى خطوة لإفساد هذا الطموح، وكان الولد ( إبراهيم باشا ) قلقا كأن الريح تحته، ينتظر بين اللحظة والأخرى الحدث الذى سيخرج طموحه من دائرة الأمنيات إلى دائرة الواقع، وظل الابن والأب ينظران إلى بعضهما بتوجس بالغ، ولم يحسم الصراع المكتوم بينهما إلا الموت الذى خطف إبراهيم.
ولنتوقف عند هذه القصة التى يرويها نوبار باشا حتى نعرف منها الكثير، وتبدأ باجتماع دعا إليه محمد على فى رأس التين بحضور ورئاسة إبراهيم باشا وحضره عدد كبير من الشيوخ والنبلاء، وذلك لمعرفة آرائهم وأفكارهم فى حالة البلد ولاسيما الزراعة والإدارة، وبعد أيام من عقد المؤتمر اعتكف محمد على فى سراى محرم بك، وهدد بترك مصر والذهاب إلى الحجاز ورفض استقبال إبراهيم.
كان سبب الغضب أن الوالى علم أن الاجتماع قدم توصيات بخصوص الضرائب والإصلاح الإدارى، وتزامن ذلك مع همسات من الحاضرين بأن نازلى ابنته جلبت له بالأمس جارية من قصر الحريم ونظرا لصغر سنها أعطوه فى القصر بعض المقويات كى يسترد صحته، وقيل همسا إنه ذهب للصيد وهو فى كامل نشاطه.
ويتساءل نوبار باشا عما إذا كان تهديد محمد على خدعة أم حقيقة ؟ ويجيب بأن المجتمعين فى رأس التين كان بعضهم هادئا ، والبعض الآخر متوترا ، وعقدوا جلسة كتبوا فيها خطابا إلى محمد على يحوى سؤالا عما إذا كان يمكنه أن يفصح عن رغباته التى لن تجد سوى العبيد المطيعين لها ، وتم تسليم الخطاب إلى صبحى بك المقرب من محمد على ، وبعد قليل من الوقت عاد صبحى بك بالخطاب الذى علق الوالى عليه بأن فى هذا المجلس شخصا غادرا وآخر طامعا، وطلب من المجلس تسليم الاثنين.
لم يحدد محمد على من هو الشخص الغادر والشخص الطامع، ويقول نوبار باشا إن كل فرد فى المجلس كان يعرف من هما المقصودان ، ولكن لم يكن أحد يجرؤ على القول بأن الغدار هو إبراهيم ، أما الطماع فهو شريف باشا ، المهم أن المجلس فور أن تلقى الخطاب من محمد على ارتسم القلق على كل الوجوه، ومن جديد كتب المجلس خطابا إلى محمد على طالبوه فيه بكل تواضع أن يفصح عن الشخصين المقصودين، وأن المجلس على استعداد فورا لتنفيذ رغبته بتسليمهما إليه فلا شىء يعلو على رغبته.
بعد أن كتب المجلس الخطاب وقع فى حيرة تتمثل فى من هو الشخص الذى يمكنه أن يحمل الخطاب إلى محمد على، ووقع الاختيار من إبراهيم على نوبار باشا للقيام بهذه المهمة.
بعد أن يصف نوبار باشا المشهد الذى وجد فيه محمد على حين ذهب إليه لتسليمه خطاب المجلس، يقول إن محمد على سأله :" من أرسلك ؟" ، وقبل أن يترك أى فرصة لنوبار للرد أكمل قائلا :" قل لهم إنى لم أقرأ خطابهم وليس لدى أى رد أرسله إليهم ولا يوجد عندى مترجم، لكن طالما أنا فى مصر فليحذروا على أنفسهم ، أما فى حالة رحيلى .... " ، صمت محمد على ولم يكمل الجملة ، ويقول نوبار باشا إنه أكملها فى سره ، والأهم أن الوالى بدا لنوبار فى صورة نمر مستعد للدفاع عن النفس بالرغم من أن صوته كان محموما ومهزوزا .
عاد نوبار ليبلغ إبراهيم بما حدث ، ووجه إبراهيم كلامه إلى المجلس :" الآن لا يبقى لنا سوى الانصراف والانتظار " ، وفى صباح اليوم التالى عاد محمد على إلى القاهرة، وذهبت المجموعة القنصلية إلى إبراهيم لتستفسر منه ، بعد أن تسربت الأخبار إلى البلاد بأن الوالى سوف يعتكف فى الحجاز، ويذكر نوبار أن إبراهيم أجاب على أسئلة القناصل بكلام بسيط عما حدث دون أدنى تعليق أو ملاحظات من جانبه ، لكن نوبار توقف عند مقابلتين لإبراهيم مع القناصل، الأولى كانت مع المركيز دى لافاليت الذى نصح إبراهيم بتعجل رحيل أبيه والانفراد بالسلطة ، وهى نصيحة رفض إبراهيم بإصرار واضح الاستماع إليها ، ويعيد نوبار هذا الرفض إلى أنه ربما جاء بدافع الحسابات أو بدافع الخوف من إبراهيم..
أما المقابلة الثانية فكانت مع السيد دانا ستازى وكان ممن يثق بهم إبراهيم، قال إبراهيم له :" إن هذه الأزمة لن تنتهى دون إراقة دماء ، وأن هذه الدماء ستكون دماءه هو شخصيا".
عاد محمد على إلى القاهرة واعتكف فى قصره بشبرا ، وقام بتحضير الأسلحة لمماليكه ، وأمر بتجهيز مبلغ مائتى ألف جنيه كان من المفروض أنه سيحملها معه إلى الحجاز، ولما بلغت هذه المعلومات أعضاء المجلس فى الإسكندرية عادوا واحدا تلو الآخر وكان آخرهم إبراهيم، واستقبل محمد على أعضاء المجلس كلا على حدة وعادت الأمور إلى طبيعتها ، لكن كيف كانت المقابلة الأولى بين الأب والابن بعد هذا الحادث ؟
يروى نوبار أنه سأل قبطان بك مملوك إبراهيم وقائد السفن الحربية فى أثناء الحملة على الشام عن تلك المقابلة، فقص عليه أنه عند العودة إلى القاهرة تلقى إبراهيم خطابا من محمد على مليئا بالعتاب، وأن إبراهيم أمضى اليوم كله نائما واضعا الخطاب على بطنه ، قائلا :" أريد أن يدفن هذا الخطاب معى وذلك من شدة الاتهامات وقسوة العتاب الظالم الذى لا أساس له ، إنه يحمل لى اتهامات أريد أن أحملها معى إلى القبر".
أكمل المملوك لنوبار باشا باقى ما حدث قائلا ، إنه فى صباح اليوم التالى اصطحبه إلى قصر شبرا ، وعند الاقتراب من القصر قال له إبراهيم باشا : "اضرب بسيفك "، فسأله المملوك :" من سأضرب ؟" فرد إبراهيم :" من سيقوم بإعطاء الأمر ؟ ، ويعلق نوبار قائلا :" أى مشهد هذا الذى يساوى مشهد ذهاب إبراهيم إلى والده وهو متخوف من الوقوع فى مصيدة ويستعد للدفاع عن نفسه مسلما أباه لضربات مملوكه وهو يعرف جيدا أنه لن يتردد فى إطاعة الأوامر" .
.........يتبع
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة