هذا ما تكتبه الصحافة العالمية عنا، وهو ما يترسخ تدريجياً فى عقل ووجدان القارئ الغربى، وبعض ما يكتب قد يكون صحيحاً، وبعضه خلط ما بين الحق والباطل، والأغلب الأعم محض اختلاق وافتراء..
وهذه القضية قد شغلتنا كثيراً، وقتلناها بحثاً وتمحيصاً، فذهب بعضنا إلى التهوين من شأن الموضوع بزعم أن ذلك شأنهم ودأبهم ولن يغيروا من سطورهم شيئاً، وذهب البعض الآخر إلى أهمية التعاقد مع شركات متخصصة فى العلاقات العامة كى تتولى عنا تحسين وتجميل صورتنا فى مواجهة هذه الحملة الظالمة، ولكن أجابهم آخرون بالمثل الشعبى المصرى الشهير: "إيش تعمل الماشطة فى الوش العكر؟!"، وذهب فريق ثالث إلى ما ذهب إليه الفريق الأول ولكنه أضاف أن تلك هى حقيقتنا فلماذا نخجل منها؟ ومؤخراً أضاف فريق رابع مشاركته فى الموضوع وبشكل عملى حيث انضم بقلمه وقلبه إلى ما تكتبه تلك الصحافة عنا، بحيث أصبح مننا وعلينا، ولا جدال فى أن تشهير أهل الحى بأنفسهم أشد صدقاً وإقناعاً .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
الصحفى الأمريكى " الشهير " توماس فريدمان " يقذفنا من حين لآخر بدرر سطوره فى عاموده الأسبوعى فى صحيفة " نيويورك تايمز " .. هذا الصحفى الذى احتفت به بعض الأوساط العربية أيما احتفاء، ومدت له الأبسطة الحمراء فى مطارات المدن العربية، هذا الرجل لم يخف يوماً أنه ليس فقط يهودياً وإنما صهيونياً قحاً، وهو كاتب ردىء يعتمد على أسلوب الإثارة والفرقعة والعناوين الفاقعة التى تبدو كنقطة عسل تجذب ذباب القراء، ولكنه – وبشكل فج – يدس الكثير من السم فى هذا العسل القليل ..
هذا الصحفى كتب ذات يوم فى الصحيفة التى حجزت له ولغيره مقاعد ثابتة لبث سمومهم حول العرب والمسلمين، كتب الحلقة الثانية من سلسلة مقالات كان يكتبها تحت عنوان : " حرب الأفكار "، وتضمنت هذه الحلقة – مثلما تضمنت الأولى – ذلك التسلل المكشوف إلى عقل ووجدان القارئ الغربى ( وربما بعض العرب أيضاً ) كى يرسخ مفاهيم باطلة، ويروج لبضاعته – وبضاعة أمثاله – الفاسدة ..
كتب أن " أسامة بن لادن قد حقق هدفه، حيث أشعلت أحداث الحادى عشر من سبتمبر التوتر بين الغرب المسيحى اليهودى والشرق المسلم"..
هذا السطر المدسوس المتسلل فى إطار سياق يتحدث عن تجربة تركيا الإسلامية العلمانية هو سطر خبيث تفوح رائحته النتنة ولكنه يحقق الهدف غير المباشر منه، فالرجل يضعه كحقيقة من الحقائق مثل حقائق الطبيعة والرياضة مثلاً، فأسامة بن لادن هو " الشرق المسلم "، وهذا الشرق قد اشتبك ليس فقط مع الغرب وليس فقط مع الغرب المسيحى وإنما مع الغرب المسيحى اليهودى ..
وهذا التوصيف للغرب قد أصبح دارجاً على الألسنة والسطور بعد أن تكرر إستخدامه من أمثال " توماس فريدمان "، وللأسف بعض الأقلام العربية أيضاً .. فما هى حكاية الغرب المسيحى / اليهودى، والثقافة المسيحية / اليهودية ؟، أن هذه كذبة من أكبر الأكاذيب التى تضاف إلى غيرها من الأوهام التى تم ترسيخها بشكل تراكمى متعمد، فكلنا نعرف تاريخ الغرب، ولا يمكن أن نجد فى هذا التاريخ أى شىء يشير من قريب أو بعيد إلى أى توحد سواء بشكل نظرى أو عملى ما بين الثقافة المسيحية والثقافة اليهودية، بل أن العكس كان هو الصحيح، فالعلاقة بين الثقافتين هى علاقة تناقض لمئات السنين، هى علاقة نفى متبادل فيما بينهما، ويكفى أن نحيل القارئ الكريم إلى ملاحم الاضطهاد الغربى لليهود التى استمرت لمئات السنين ..
ربما يمكن أن نفهم حديثاً عن الثقافة الإسلامية / اليهودية بالنظر إلى الروح التسامحية التى سادت الأندلس أثناء فترة الحكم الإسلامى، ولكن من الصعب أن نقبل أو نهضم ذلك الإدعاء غير الصحيح بشأن ثقافة متحدة الجذور ما بين الغرب المسيحى والغرب اليهودى، بل أين ما يمكن أن نشير إليه بإعتباره غرباً يهودياً ؟ .. اللهم إذا كان المقصود هو تلك الفلول التى هرولت هرباً من القارة الأوروبية أثناء حكم فرديناد وإيزابيلا وما تلاها، حيث توالت هجرات يهود أوروبا إلى حضن الشرق العربى الإسلامى الدافئ المتسامح الذى كان الملاذ والمأوى لهم لمئات السنين .. ذلك الشرق الذى يراه الآن ذلك الصحفى فى تصادم مع غربه المسيحى اليهودى!!..
ذلك الادعاء مقصود به اكتساب التعاطف الغربى من قارئ يعيش فى إيقاع سريع لاهث يلتهم فيه الطعام السريع مثل المقال السريع، وتتصلب الأكاذيب شيئاً فشيئاً كى تتحول إلى ما يشبه الحقائق الثابتة التى ليست فى حاجة إلى المراجعة، وتكتسب فى عقول القراء الأبرياء ( ومنهم بعض العرب وإن لم يكن أغلبهم أبرياء ) حجة ثابتة وسلاحاً يوجه إلى ذلك الشرق البائس ..
وقد يكون مفهوماً أن يكتب مثل هذا الصحفى ما يكتب، فالرجل – كما ذكرت – لم يحاول أن يخفى فى أى لحظة صهيونيته، وهو يستغل ما أتيح له من مواهب كى يخدم بها قضية عشيرته، وبغض النظر عن تقديرنا لتلك المواهب، فهو كاتب يفتقر إلى أبسط أصول الكتابة سواء فى الأسلوب أو كيفية تناول الموضوعات، ومع ذلك فلا يمكن أن نصادر عليه أو على من يتيحون له المساحة كى يلقى إلى قرائه بما يلقى، فهو حر وهم أحرار، مع الاعتذار للمعنى الحقيقى للحرية، وهو من ناحية أخرى قد يشعر بالرضا عن نفسه لأنه يدافع عن قضية عشيرته بشكل يتناسب مع محتوى الثقافة التى يخاطبها، فضلاً عن أنه – من ناحية ثالثة – يكتب بلغة لا تقرأها غالبية شعوب الشرق وبالتالى فأن سمومه تبقى محصورة فى إطارها الثقافى .. ولكن هذا للأسف ليس صحيحاً ..
فمن المدهش أن مقالات الرجل بكل ما فيها من دس ودسيسة تترجم بشكل شبه منتظم وتنشر كواجب مدرسى فى بعض الصحف العربية، بل أن المصيبة الأعظم أن بعض أدعياء الثقافة من العرب، والذين أتاحت لهم مجتمعاتهم العربية أن ينالوا درجات علمية من الغرب، تحولوا إلى أبواق تكبر هذا الهراء، بل تنقله نقلاً عن مثل هذا الصحفى دون أن تشير إلى مصدرها، وأصبحت مصطلحات ومفاهيم هذا الصحفى وغيره تبرز فى سطور بعض مثقفى العرب باعتبارها بديهيات وحقائق لا جدال فيها، وتجد بعضهم وقد ثبت طرطور الحكمة على رأسه يطل علينا من الفضائيات العربية كى يردد كالببغاء ترهات ذلك الصحفى وغيره بإعتبارها من بنات أفكارهم وتجليات عبقرياتهم ..
أنه عار القلم الذى فقد حياءه وانتماءه، وأصبح أخطر طابور خامس يعيش بيننا يأكل من خيرنا ويتحدث لغتنا ويسمم أفكارنا ويضلل أجيالنا الجديدة الناشئة، وقد يدعى بعضهم بأنه يردد ذلك عن إقتناع وعلم وسعة أفق أو واقعية ومنطقية، وهى كلها أسباب متهافتة مثل تلك التى يرددها جاسوس أمام محققيه كى يبرر فاحشة خيانة الوطن والأهل، بل ربما أسوأ من ذلك حين تشبه تلك الحجج التى تتعلل بها ساقطة كى تبرر اقتراف الفاحشة بانها فعلت ذلك بإسم الحب ..
وقد يقول قائل إنما هم يكتبون ما يكتبون بحسن نية وجهلاً، إلا أن درجاتهم العلمية الرفيعة تنفى عنهم الجهل، وما يحصلون عليه مقابل ممارستهم لذلك النوع من رزيلة الكتابة ينفى عنهم حسن النية، كما تنفيها أيضا خياراتهم التى يقبلون عليها ويقذفون بها للقارئ العربى، وكأنهم أعضاء فى شبكة تتآمر على العقل العربى، وكأنه لا يكفى ما يتم ترسيخه فى عقول القارئ الغربى، وأصبح الدور الآن على القارئ العربى كى يبتلع السموم وتجرى فى جسده مجرى الدم فى الوريد ...
أحذروهم وأحذروا أساليبهم الملتوية، فبعضهم يتحدث ببراءة عن الديمقراطية المفقودة ويتباكى على حقوق الإنسان الضائعة، بينما لا يجد غضاضة فى احتلال الأجنبى وابتلاع ما تبقى من فلسطين، فالاحتلال – كما قال أسلافهم فى زمن الاستعمار – هو فرصة للتحضر والتقدم، أما فلسطين فلم تكن سوى حجة لحكام مستبدين كى يفترسوا شعوبهم، والفلسطينيون هم مجرد حفنة من الإرهابيين ويستحقون ما ينالونه على أيادى الصهاينة المتحضرين الديمقراطيين .. أنهم ينقلون عن توماس فريدمان وغيره دون أن تكون لديهم شجاعة الإشارة إلى المصدر، ويجلسون فوق مقاعد الحكمة الكاذبة العالية كى يحدثون أبناء جلدتهم عن تصورهم لشكل مستقبل العبيد ..
بئساً لهم ولما يسطرون ...
* عضو اتحاد الكتاب المصرى.