صدق من قال "لا كرامة لنبى فى وطنه".. فوحدها الأيام تسلخُ عباءتها من حيوات الأنام.. فتصطفى رسلاً ومبشرين تركوا زيف الحياة ورغدها خلفهم غير عابئين بما ينتظرهم.. فساروا فى طرق مقفرة.. تشققت الأرجل وأدميت أفئدة من نور فجفت.. فأضاءوا للقادمين كنجوم هبطت فأصبحت سراجاً منيرا.
وربما يرى البعض أنه من العبث أن يترك إنسان حياة كريمة فى بلد آخر – باريس – ويختار موطنه ليبقى فيها حتى تجف دماء قلبه.
يقول الفنان التشكيلى الراحل عدلى رزق الله فى أحد الحوارات التى أجريت معه عقب عودته من باريس إلى مصر "لم أندم على قرارى أبداً، ولم تهتز شعرة من رأسى على هذا الاختيار فى أى وقت من الأوقات.. وكنت أعرف أن هناك صعوبات فى انتظارى، ولكننى لم أهتز مطلقاً، كل ما كان يعنينى وقتها هو أن أرتمى مرة أخرى فى أحضان هذا الوطن لأننى اكتشفت وأنا هناك أننى لا أستطيع العيش بعيداً منه، قضيت عشر سنوات فى فرنسا، لم أسع خلالها للحصول على الجنسية الفرنسية كما يفعل البعض، بل ولم أقبلها حين عرضت علىَّ، فلم أكن أريد أن يطلق على أبداً أننى فنان فرنسى من أصل مصرى.. فأنا لى جنسية واحدة أعتز بها ولم أرد يوماً أن أنتمى إلى أى جنسية أخرى، ما عندى أريد أن أعطيه لأهلى..".
ويضيف رزق الله "كما أننى تذوقت حلاوة العيش فناناً فى باريس لمدة عشر سنوات، فقررت أن أواصل تلك الحياة فى مصر، وساعدتنى على ذلك السيدة الجميلة زوجتى لأنها لم تطالبنى بما هو فوق طاقتى مادياً"، كما لم ألجأ إلى حيّل لم تكن معروفة فى سوق الفن فى الثمانينيات، مثل تقسيط ثمن اللوحة لكى يستطيع متذوقو الفن غير الأثرياء أن يقتنوها، "لقد آمنت بجمهورى".
لم يكن ترك باريس فقط هو الإختيار الصعب الوحيد فى حياة رزق الله، بل كان هناك إختيار آخر صعب، وهو إختيار العقيدة، حينما أختار أن يدخل الإسلام، ورغم ما كان ينتظره من خلاف وجدل هو هذا الإختيار، إلا أن رزق الله لم يعدل عنه، ولم يتخوف منه، وربما شاركت نشأته الصعيدية فى إصراره على أرائه، وعدم الرجوع عنها، فقد ولد الراحل فى صعيد مصر وتحديداً فى بلدة أبنوب الحمام بأسيوط، فى العشرين من يناير 1939، ولهذا اختار أن يقيم أحد معارضه "الصعيدى والصعيديات" فى مسقط رأسه، وفى كتيب صدر للمعرض يقول رزق الله فى مقدمته "أنا ابن الحضارة بجمّعِهَا وليس بالطرح منها...لا أقسم العالم قسمين، واحداً اسمه الغرب والثانى الشرق..اندمجت فى خلاياى كل هذه الانتماءات وذابت فى بعضها البعض".
تلقى رزق الله تعليمه الأكاديمى فى مصر، غير أنه لم يهتدِ إلى أسلوبه المميز إلا فى باريس، فيقول فى أحد حواراته "كأننا كنَّا على موعد، باريس وأنا"، وهناك، فى مدينة النور باريس، نهل من منابع الفن التشكيلى فى المتاحف الكبرى، وذُهل عندما التقى وجهاً لوجه بلوحات رمبرانت وسيزان وباول كليه وبيكاسو، واعتادت قدماه الذهاب يوميًا لعدة أشهر لمتحف اللوفر، وبعد شهور قليلة وُلدت لوحته الأولى فى باريس عام 1972 بعد عشر سنوات ظل يبحث خلالها عن أسلوبه.
حقق رزق الله نجاحاً ملحوظاً فى باريس، ورغم ذلك قرر العودة إلى مصر ليكون – مثلما قال – "خبز المائدة" فى وطنه، وليس مجرد "ليمونة بنزهير على مائدة متخمة بالطعام أصلاً".
تخصص رزق الله فى فن المائيات وأخلص له، وقرر أن يتفرغ كليةً للفن التشكيلى منذ عام 1980.
وفى السنوات التى يسميها عدلى رزق الله "سنوات الولادة"، أى فى السنوات بين العشرين والثلاثين، وهى السنوات التى كان يبحث فيها عن دوره، كان رزق الله يقرأ كل ما تقع عليها يداه، فيقول اكتشف ذات يوم كتاب "هكذا تكلم زرادشت" للفيلسوف الألمانى نيتشه، هذا الكتاب دلّنى على الكنز الموجود لدى الإنسان، كنز الإرادة، كنز القوة الداخلية".
تخرج رزق الله من كلية الفنون الجميلة عام 1961، كما درس الفن بجامعة استراسورج (1974 – 1978)، عمل كرسام فى دار الهلال، وأستاذًا بجامعة استراسبورج بمعهد الفنون التشكيلية، كما أشرف فنيا على دار الفتى العربى، وتفرغ للفن عام 1980.
أقام أكثر من 50 معرضًا خاصًا، وشارك فى حوالى ثمانية معارض جماعية، بالإضافة للمعارض الدولية، ونال شهرة كبيرة فى مجال رسوم الأطفال؛ فكان يقوم بتأليف ورسم كتب الأطفال برؤيته الخاصة، ومن بين هذه الكتب: "مينى ومينيت" والذى صدر عن دار فلوروس للنشر فى باريس 1978، "الأوزة البيضاء" عن دار الفتى العربى 1980، "القط يحب الغناء" 1983، "الفانوس والألوان" عام 1983، "العب..العب..العب وتعلم (تمر) العدد 1، 2" وهو مشروع لتعليم الأطفال بصريا عن طريق الفن 1995.
وصدر له "أشعار صلاح عبد الصبور ومائيات عدلى رزق الله" 2001، وله سلسلة من الحكايات منها "الشجرة أم الظل الكبير"، و"الفانوس السحرى والألوان"، و"شجرة الورد وطائر الشمال" 2000، "الطائر المغنى" عام 2001، "الفنان والأحلام" فى بيروت 2004.
كما كان ينتظر صدور "ماذا حدث فى القرن العشرين فى الفن الغربى" وهو كتاب من عشرة أجزاء، وكذلك كتاب "شلبيه إبراهيم (جنية الدلتا)، "الوصول إلى البداية" وهو الجزء الثانى من سيرة ذاتية.
ومن الجوائز التى حصدها رزق الله جائزة "سوزان مبارك" 1999، "الجائزة الشرفية للمجلس العالمى لكتاب الطفل 2000، "معرض لينبرج الدولى" بألمانيا 1980، "المركز العالمى لكتب الأطفال" فى سويسرا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة