معصوم مرزوق

سبعتلاف سنة حضارة !!

الخميس، 16 سبتمبر 2010 08:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"إحنا سبعتلاف سنة حضارة يا عم.. إصحى".. يرددها المصريون فى مجالات المباهاة والتلاسن مع غيرهم من الجنسيات الأخرى، وخاصة العربية، ويهتفون بها فى مباريات كرة القدم التى يشارك فيها الفريق القومى، ويتداولونها فى صالونات المثقفين الضيقة باعتبارها فرضية علمية لا جدال فيها، ويستخدمها أغلب ولاد البلد فى نكاتهم اللاذعة للسخرية من واقع الحال..

وتصف سعاد بها زوجها سيد بعد أن تحول إلى رجل بركة لا يهش ولا ينش، تقول عنه وهى تمصمص شفتيها وتضرب فخذيها فى يأس: "راجل يا ختى سبعتلاف سنة حضارة.. مومياء يعنى!!"..

لا شك فى أن من يقف أمام شموخ الأهرامات فى الجيزة، ومعبد حشتبسوت فى البر الغربى، وكذلك أمام أعاجيب العمارة والفن المصرية القديمة.. لا شك أنه يشعر بعظمة ورقى تلك الحضارة التى أشرقت فأضاءت ظلمات الإنسانية، وحفرت أزاميل المصرى القديم أروع الصور لأبجدية تلك الحضارة الخالدة.

لا شك كذلك فى أن من يقف ليتأمل أهرامات "الزبالة" المتناثرة فى أركان شوارع المدن والقرى، وأعاجيب الطفح اللونى والهندسى فى مستوطنات العشوائيات.. لا شك أنه يصدم فيما آل إليه حال المصريين، ويملأه الشك فى انقطاع الصلة ما بين ذلك الماضى السحيق ذى العظمة والبريق، وذلك الحاضر الصفيق الذى ضل الطريق..

أتذكر حضورى لندوة قبل ما يزيد على خمسة عشر عاماً، حول كتاب لصديق حاول فيه أن يثبت بكافة البراهين الممكنة أن الإنسان المصرى الحالى هو امتداد للحضارة الفرعونية القديمة، ونافياً فى نفس الوقت أى ادعاءات لثقافات أخرى تحدد هويته، وخاصة الهوية العربية.. لقد وقفت لأسأله حينذاك "باللغة العربية" عما إذا كان يمكنه أن يدلنى على مصرى واحد يتحدث "باللغة الهيروغليفية"، مشيراً إلى أن اللغة ليست فقط أداة للتواصل بين البشر، وإنما هى وعاء ثقافى يحمل مفردات حضارة المجتمع البشرى، واستنتجت من ذلك أن هوية المصرى هى الهوية العربية، لأن ميراثه الفكرى والثقافى لا يحمل سوى سمات ما تحمله إليه اللغة من مكونات مختلفة فى السياسة والاقتصاد والعادات والتقاليد وتاريخ الفكر نفسه..

ولقد مثلت أزمة الهوية مشكلة كبيرة لدى قطاعات مختلفة من النخب المصرية، وتصارعت الديكة ما بين ديك فرعونى الهوى، وديك إسلامى الأصول، وديك عربى المنبت، وديك بحر متوسطى عميق.. ومن الملاحظ أن ذلك الصراع الذى نتف فيه ريش كثير، لا وجود له فى الساحات الشعبية التى تردد فى عفوية وتلقائية فى مجال التفاخر أو السخرية: "إحنا سبعتلاف سنة حضارة يا عم.. إصحى!!"، وكأنها صارت جملة تشير إلى "شهادة منشأ" تم صكها فى الوجدان الشعبى دون تمحيص أو تقصى، ودون شعور بأزمة من نوع أزمة النخب التى أضناها التفتيش فى أضابير الفكر عن هوية.

وقد ذهب بعض النخب إلى اقتراح حذف كل مايسفه الفرعون ويروى عن جبروته، أو على الأقل عدم تدريسها للنشأ حتى لا يحتقروا تاريخ بلادهم، بينما ذهب البعض الآخر إلى إبراز الجانب الفرعونى وتأصيله، فيما ذهب آخرون إلى أهمية البعد الحضارى الإسلامى فى التاريخ المصرى، ركز البعض على ضرورة إيلاء الثقافة القبطية اهتماماً مضافاً، بينما رأى فريق آخر أن "العروبة" هى الوعاء الذى يحتوى كل هذه العناصر، أصر فريق أخير على أن الهوية المصرية لا هى فرعونية ولا عربية ولا إسلامية ولا قبطية، بل بحر متوسطية، لولا الفاصل المائى لصارت أوروبية.

الحديث عن الهوية الحضارية بالشكل السابق يخلق معه الشعور بالشوفينية والتعصب واحتقار الآخر، ولا يخلو تاريخ البشرية من حضارات سادت ثم بادت، ومناطق جغرافية تألقت ثم انطفأت، وشعوب حملت شعلة الحضارة لأحقاب وقرون، ثم انكفأت فى حفرة تاريخية لأحقاب وقرون أخرى، لذلك فإنه من الصعب أن نجد شعباً لا يتباهى بفترة ما فى تاريخه، سوف نجد اليونانى الذى يقرع كؤوسه مع الماضى الإغريقى التليد، والصينى الذى يتباهى بالمجد الغابر، والهندى.. إلخ، وحتى الأمريكى الذى هو نتاج هجين مهاجر إلى قارة الهنود الحمر، سوف تجده يفاخر بحضارة لم يصل عمرها إلى ثلاثة قرون، ويحاضرك عن "أسلوب الحياة الأمريكى"، أو البريطانى الذى يثرثر بعد الظهر حول فنجان شاى متذكراً المجد الإمبراطورى لإمبراطورية لم تغب عنها الشمس..

ولقد كانت نتائج التعصب والشوفينية القومية وخيمة على الإنسانية، والأمثلة تستعصى على الحصر، ولكن أقربها تاريخياً هو النازية الألمانية التى اعتنقت فكرة نقاء العنصر الآرى، والفاشية الإيطالية التى روج لها موسولينى، وكذلك نظام الأبارتايد فى جنوب أفريقيا العنصرية، والنظرية الصهيونية التى تدعى امتداداً لأكثر من ألفى عام لقومية دينية، وأسست لاحتلال عنصرى استيطانى، هو فى واقع الأمر اقتلاع لشعوب عاشت فى هذه المنطقة.

من ناحية أخرى، فإن استدعاء تاريخ الشعوب وأمجادها الغابرة يعد أسلوباً من أساليب التعبئة التى تفيد فى فترات التحدى التى تواجهها الشعوب، مثل الحال عند مواجهة عدو خارجى، أو لتحقيق التنمية والنهضة، حيث يسهم ذلك فى رفع الروح المعنوية واستعادة الثقة بالنفس من خلال استلهام الجوانب المضيئة من التاريخ ومحاولة إسقاطها على الواقع، ولا يحقق هذا الأسلوب النجاح المنشود إذا كانت الهوة جد شاسعة ما بين النموذج التاريخى المستدعى، وبين الواقع المعاش، مثل أن يتذكر شخص مريض ضعيف منهوك القوى جده الذى كان بطلاً فى الملاكمة، فلو أنه تقمص روح جده فإنه فى الغالب سيسقط بالضربة القاضية قبل أن يبدأ المنازلة.

وتقديرى أن الحضارة بمفهومها الواسع هى ملك للبشرية جميعاً، ولا يتميز دور شعب أو إقليم إلا بما يتميز به متسابق فى سباق التتابع الذى يسلم العصا لمن يليه كى يواصل التقدم، فالحضارات تتواصل، وكأنها فروع نهر تصب فى مجراه الرئيسى لتمده بالقوة والخصوبة، ويفيد كل من يحيا على ضفتيه، لذلك فإن ادعاء احتكار الحكمة أو العبقرية أو الإنجاز الحضارى ليس سوى نظرة ضيقة قاصرة عن فهم التاريخ البشرى.

لا توجد حضارة عمرها "سبعتلاف أو عشرتلاف سنة"، فعمر الحضارات مرتبط بازدهارها وما تقدمه من تقدم فى تاريخ الإنسانية، والحضارة الفرعونية نفسها شهدت مداً وجزراً، تقدماً وانحطاطاً شأنها شأن كل الحضارات، ثم أغلقت بابها التاريخى لتصبح صوراً وتذكارات فى المتاحف وكتب التاريخ، وعلى من يريد استلهامها أن يثبت قدراته فى مجال بناء الحضارة، فليس كافياً أن تقتصر قدراته على التغنى بأمجاد لم يشارك فيها، وذلك يذكرنى برجل أرستقراطى من أعرق السلالات الأوروبية توجه إلى برنارد شو متفاخراً بنفسه وأنه من عائلة كذا، وسأل برنارد عن عائلته فأجابه ساخراً: أنت آخر سلالة عائلتك، أما أنا فبداية سلالة برنارد شو..

ختاماً، فلعل وصف سعاد لزوجها سى السيد يلخص كل شىء: "راجل يا ختى سبعتلاف سنة حضارة.. مومياء يعنى!!"..

• عضو اتحاد الكتاب المصرى.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة