جلس على ترولى صدئ تحيط به ستارة كئيبة.. فوق فمه وأنفه قناع الأكسجين.. عينيه تتجهان لسقف الغرفة الذى يتداخل فيه اللون الأبيض والبنى من نشع المياه وتساقط دهانه.. يعلو صدره ويهبط بسرعة.. تتسع عيناه وتضيق.. تتداخل قسمات وجهه.. روحه تكاد أن تفر من جسده.
إحساس تعود عليه منذ صباه.. رجل فى الخامسة والخمسين نحيل الجسد عروقه نافرة يشتعل رأسه شيباً.. من يراه يعتقد أنه فى السبعين من عمره.. اسمه مصرى.. يعيش وحيداً.. لم يتزوج.. كلما تذكر مشوار حياته كان يردد بيت أبى العلاء "هذا ما جناه أبى علىَّ وما جنيت على أحد".
بدأت أنفاسه تعود إليه.. جاءت ممرضة وعلى عجل أزاحت القناع من على وجهه، وهى تقول يالا يا أستاذ أحسن فيه غيرك مستنى.. عدى على الدكتور وأنت خارج.. اتجه إلى خارج المستشفى بين جموع من البشر تعلو وجوههم الكأبة مع انبعاث صوت امرأة تصيح وتصرخ من الألم.
موقف تعود عليه منذ أن أصيب بداء حساسية الصدر.. يصيبه فجأه ويجعله مضطراً للذهاب لأقرب مستشفى من منزله.. يا الله أهذا مستشفى لعلاج البشر.. لنا الله.
استقبلته سيارة ميكروباص ينطلق منها دخان كثيف خلفها ميكروباص آخر مخلفاً وراءه سحابة من التراب.. وضع منديلاً على فمه وأنفه.. ضاق صدره وتسارعت نبضات قلبه.. تلفت حوله وجد حجراً كبيراً بجوار الرصيف من مخلفات الكوبرى الذى افتتحوه منذ عدة أيام.. جلس عليه يستريح ويلتقط أنفاسه والعرق يتصبب من جبينه.. بدأ الذباب يحوم حوله.. بيده الأخرى بدأ يدفعه عنه وعينيه تضيق مع ضيق نفسه.
نظر حوله وجد حاوية للقمامة تمتلئ على آخرها بالأكياس وحولها لمسافة كبيرة المئات من أكياس القمامة التى تناثرت محتوياتها ويأكل منها العشرات من الخراف والماعز.. منظر تعود عليه منذ زمن وتعود عليه الناس فى المنطقة فأصبح لا يثير فيهم شيئاً، لكنه اليوم لاحظ وجود طيور بيضاء اكتسى معظم ريشها باللون الرمادى ذوى أرجل طويلة رفيعة تشارك فى مأدبة القمامة.. نظر إليها مستغرباً وهو يحاول أن يتذكرها.
تذكرتها.. لاح فى خياله منظر هذه الطيور عندما كان يراها وهو طفل فى حقول القرية ناصعة البياض تلمع عيونها.. تمشى فى عزة وكبرياء وهى تأكل من رزق خالقها.. إنها طيور أبو قردان! يا الله لسنا وحدنا الذى جار علينا الزمان! لم نهن وحدنا ولكن حتى الحيوانات والطيور تشاركنا المهانة.
نظر إلى يساره وجد عربة كارو تعلوها كومة كبيرة من الخس يجرها حمار هزيل يكاد يقع على الأرض من ثقل حمولته.. تذكر مجرى الترعة الضيق القريب من منزله.. مياهه راكدة لا تراها من كثرة القمامة والزجاجات والحيوانات النافقة الملقاة فيها.. قال لنفسه.. إننا أيضاًَ نأكل من القمامة.. هون على نفسك يا أبا قردان!!
اتجه نظره لأسفل الكوبرى وجد مخلفات البناء فى كل مكان.. تذكر أكوام التراب التى تملأ الشارع الذى يسكن فيه.. آخر مره شاهدهم يكنسونه منذ سنوات لا يتذكر عددها.. قطع تفكيره مرور ميكروباص متهالك يمتلئ بالركاب يقف صبى السائق فى منتصفه مكان بابه المفقود.. لوحة الميكروباص الخلفية تحمل لوحة ملاكى.. تذكر أنه شاهد صفاً طويلاً منها يقف فى موقف للسرفيس.. سأل صديق له سائق تاكسى كان لتوه قد دفع غرامة لعدم لبسه حزام الأمان.. إزاى عربيات أجرة ولوحاتها ملاكى؟ نظر إليه وعلى وجهه علامات متداخلة لا تعرف لها فى قاموس التعابير تفسيراً.. متسألش أحسن.
عند التقاطع من الناحية الأخرى تشابكت السيارات وعلا صوت ساريناتها.. نزل أحدهم وقام بتنظيم السير ليفك اشتباك سيارة من يرافقه.. منذ زمن لا يدركه لم ير فى ذلك الحى من ينظم مروراً أو يحفظ أمناً، أخيراً فض الاشتباك وجاءت مجموعة من السيارات تتسابق.. أثارت سحابة هائلة من الدخان والتراب جعلته يختفى داخلها.. لم ينفع معها كتم أنفاسه.. عندما تلاشت السحابة من حوله كان لون وجهه قد تحول إلى اللون الأزرق وتحشرجت أنفاسه.. شاهده بعض المارة حملوه وجروا به على المستشفى التى لم يكن أبتعد عنها إلا مسافة قصيرة.. شاهدته الممرضة.. أنت تانى..!! إحنا مش هنخلص النهارده..!! حطوه هنا.. وأسرعت تنادى الطبيب.
وضعوا له محاليلاً وتصاعد بخار الفنتولين حوله مخلفاً سحابة بيضاء.. قال لنفسه الدخان الأبيض المنبعث من السيارات يجئ بى إلى هنا وسحابة بيضاء أخرى هى دوائى.. مصيرى وحياتى أصبحت تدور فى فلك تلك السحب البيضاء اللعينة.. وداوينى بالتى هى الداء.
بدأ يشعر بتحسن.. لا يتذكر متى مشى من المستشفى ومتى وصل إلى منزله ومتى نام فى سريره..!! صحا مفزوعا على أضواء حمراء وخضراء وصفراء تنعكس على حوائط الغرفه ونبضات تهز سريره مع أنبعاث صوت يكاد أن يصم الأذان؟ ووووه وووه وووه... العنب العنب العنب.. أحمر.. أصفر.. أحمر وزى اللوز وأحسن ياناس مالموز..!!؟
نظر من شباك غرفته وجدهم قد نصبوا شادرا أمام البيت لبيع الحلويات بمناسبة شهر رمضان والعيال تصفق و ترقص أمامه..!! لم يكن ينقصنى إلا هذا..أروح فين يارب..؟؟ قفل الشباك.. رجع لفراشه..حاول ان ينام مرة أخرى بدون جدوى..أضاء النور..جلس على السرير.
تناول صحيفة وجلس يفرها..وجد أعلانا فى أعلى الصفحة الأخيره.. أغتنم الفرصة الأخيره للحجز.. مدافن خمسة نجوم.. مساحات خضراء.. هواء نقى.. أضاءة داخلية.. حراسة.. مكان تستطيع أن تصطحب فيه أولادك لزيارة أجدادهم..!!؟
لمعت عيناه.. قام وفتح الدولاب..أخرج دفتر التوفير.. فتحه وهو يقول لنفسه لو ماكنتش عارف أعيش بنى أدم أموت بنى أدم..!!؟ تصاعدت فجأه هزات السرير..وجد قدميه تصتك فى بعضهما البعض..؟؟ وقع منه الدفتر على الأرض أنحنى ليلتقطه..سمع دوى صوت كالرعد..!!؟ وجد كل شئ يهتز أمام عينيه..!!؟ تهاوت أجزاء من السقف وأظلم المكان..!!؟
كان هذا آخر عهد بالرجل.. لم تكتمل قصته ولا يعرف له مصيرا..!!؟ فلا أحد يعرف هل أستطاع أن يخرج قبل انهيار المنزل أو هل أستطاع أحدا أن يخرجه..؟؟
ارتفعت سحابة الأتربة إلى عنان السماء مع تصاعد الصوت المدوى الذى كان لا يزال منبعثاً.. البلح البلح البلح.. أحمر..أسمر.. زغلول.. أحمر وطعمه خطير.. صغير ياناس وكبير.. فكهانى وبحب الفاكهه وبموت فى الموز والمانجه.. بصراحه على الفاكهة بغير وببيع وأشترى بضمير..!!!!!؟؟
