يتسبب رحيل بعض الأحباء فى العائلة إلى اتجاه الروائيين لإعادة اكتشاف النقاط المضيئة فى حياتهم، واستعادتهم من خلال عمل روائى، وهو ما فعله الروائى محمد صلاح العزب فى روايته " سيدى برانى" الصادرة حديثا عن دار الشروق، حيث وضع شكرا فى نهاية الرواية لروح جده العزب، قال فيه: لم أكن أتصور فى حياتى أنه يحتل كل هذه المساحة من روحى، لولا انفصاله عن جدتى واختياره "سيدى برانى" مكانا لعزلته لما عرفت بوجود هذه المدينة على الخريطة، ولما كانت هذه الرواية.
تبدأ "سيدى برانى" التى تدور أحداثها بين ثلاث أماكن هى القاهرة وسيدى برانى على حدود مصر الغربية، وباريس، بالجد الذى يحكى حكايته الشاب راوى الحكاية قائلا: حين مات جدى للمرة الأولى لم يكن يملك سوى عصا من خشب ردئ وجلباب طويل، حفروا له على عجل حفرة غير عميقة بجوار جثمانه تماما، فتعفر وجهه واختفت ملامحه، خيطوا له الجلباب على جسده من أسفل، وتحيروا فى رأسه، فوضعوه فى الكيس القماشى الذى اعتاد أن يحمل فيه طعامه، دفعوه حتى سقط فى الحفرة وأهالوا التراب على جسده وانصرفوا دون أن ينظر أحدهم وراءه.
هكذا يفتتح العزب الرواية بالجد وينهيها بالتنويه الذى يشكر فيه جده العزب وفيما بينهما يحكى لنا الشاب راوى الحكاية قصص ثلاث عشرة حياة يحياها جده، فيشير فى أولى صفحات الرواية إلى أن طفلا صغيرا عاد إلى موضع دفن الجد، فوجد الجلباب والكيس القماشى مفرودين على سطح الحفرة الذى ظل ممهدا كما تركوه، وهو ما جعل الناس يبنون فوق القبر ضريحا يزوره المريض والمحتاج والمربوط.
فى أولى حيوات الجد، يعثر عليه أهل إحدى القرى طفلا عمره 4 أعوام، متمددا على شاطئ النهر، له شارب ولحية مكتملين، كأنه شاب فى العشرين، يظنه أهل القرية طفلا مسحورا، وتظهر دعوات تطالب بقتله، حيث يصفه البعض بأنه ليس إنسيا، فيما يقول العقلاء من أهل القرية أنه ليس مسحورا، ولكنه ابن خطيئة، وفى هذا الموضع المبكر جدا من الرواية يبدأ العزب محاولة استعادة التراث الصوفى بنسج الأساطير حول هذا الطفل، فأهل القرية يعبثون فى جسده، وفمه، ويحاولون التحقق من لحيته وشاربه، بل ويضغطون على أسنانه لاختبار قوتها، دون أن ينجحوا فى جعله يتخلى عن ابتسامته.
يعيش الجد فى هذه القرية فى كنف خادمة عجوز تتهيبه أولا، ثم لا تلبث أن تكتشف رجولته الكاملة، فتستعيد معه شبابها بالكامل، ويختفى من رأسها المشيب، ويعود جسدها مفرودا كما كانت شابة، تتشبث الخادمة العجوز بالطفل، وتدافع عنه وتستمر علاقاتها به، حتى تفاجأ بحملها منه، فيحاكمها أهل القرية بتهمة الوقوع فى الخطيئة ويتهمون ظلما أحد باعة الأقمشة بالقرية، لأنهم لا يتصورون أن الطفل هو والد الجنين.
ينتقل العزب بعد هذا الجزء إلى حكاية أخرى هى قصة " الحفيد "الراوى الذى يقص حيوات جده، والذى يقوم أخواله بتسليمه لجده، الذى يعيش فى عزلته فى سيدى برانى، بعد أن تلتهم النيران أبويه فى حادث أليم ، بل يؤثر أن يؤخرها حتى يقص قصة حياة الجد فى باريس والتى يرحل إليها فى رحلة دراسية بعد أن عاش حياة أخرى عامرة فى كازينو بديعة مصابنى، يلتقى فيها بنجيب الريحانى، ويكاد يقع فى حب الراقصة "ببا" ويعمل مشرفا على أعمال رجل الأعمال "التونسى" الذى يفتح قصره لحفلات المخنثين ولكن العزب لا يعمد إلى قص الحكاية بهذا الترتيب فالقارئ يصادف أولا قصة سفر جد الشاب إلى فرنسا فى الصفحة 25 ثم يستكمل دائرة الحكاية فى الصفحة 155 وفيما بينهما نتعرف على حيوات متعددة للجد، يقود فى إحداها ثورة ضد أحد الحكام لينتزع منه سلطة الحكم حين يدعى النبوة ويصدقه أتباع هذا لحاكم، كما نتعرف على العم سمعان المريد الأمين الذى يصطفيه جد الشاب فى عزلته بسيدى برانى، ليحكى له أسرار حيواته المختلفة، والذى بدوره يحكيها للشاب، يجلس سمعان الشاب أمامه ويحكى: أول ما جاء أخوالك إلى سيدى برانى، ونزلوا من السيارة الكبيرة الصفراء التى تبرق فى الشمس كسبيكة الذهب، والتى كتب على جانبيها كلام كثير بلغة لا أعرفها تحلق الصغار حول السيارة وتركت النسوة ما بأيديهن ليتفرجن، نزل أربعة رجال يحملون رضيعا ويسألون عن الشيخ، ولما علموا أن حوش جدك بعيد، سألوا عن طبيب للرضيع الهالك".
مستثمرا للتراث الصوفى يجعل العزب جده أسطورة لا تنتهي، مستغلا فى ذلك نظرية تناسخ الأرواح، وقدرة المتصوفة على أن يحييوا فى أكثر من مكان فى ذات الوقت، متسائلا عن معنى الحياة والموت، وفاتحا الجدل مرة أخرى حول الوجود الإنسانى وجدواه، ليتجدد بصيغة إبداعية جديدة السؤال القديم، من يحيا فى الآخر الإنسان أم الزمان والمكان؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة