وحياة النبىّ.. تخف إيدك شوية!!.
دائما ما أتوجه بهذا الرجاء إلى الملاك المبجل الجليل عزازيل، بعد كل مرة يخطف فيها واحداً من أصدقائى، للأسف لم يكن محيى اللباد واحدا من أصدقائى فى الحياة، ولا أعرف لماذا لم أكسر خجلى الريفى، وتعرفت عليه؟!
لماذا لم أطلب مثلا من حلمى سالم أو بدر الرفاعى، وقد عملا معه فى دار الفتى العربى، أن يعرفانى عليه؟، أو أذهب مرة مع الفنان محمد شهدى، صديقى، وزميلى فى دار المعارف ليعرفنى عليه؟
لكن أسفى، على عدم كونه واحدا من أصدقائى فى الحياة، يشحب كلما أدركت أنه كان ولايزال واحدا من أصدقائى الروحيين، فلم أكن صديقا لجمال عبد الناصر أو أو السهروردى أو صلاح جاهين أو عبد الحليم حافظ أو سلفادور دالى أو أنتونى كوين أو أو أو، مع ذلك كنت مبهورا بهم، ودائم النقاش معهم، لقد كانوا أكثر حياة، وأكثر تأثيرا فىّ، وفى تكوينى الثقافى والفنى من بعض هؤلاء الذين أمضيت حياتى فى التسكع معهم!!
بينى وبين أستاذى محيى اللباد ستة أعوام، ولد هو 1940 فى بداية تقويض العالم فى الحرب العالمية الثانية، وولدت أنا والعالم ركام بعد الحرب، وفوضى تحتاج إلى صياغة جديدة، كنا إذن على طرفى قوس مشؤم من تاريخ العالم القريب.
قطع
هل كانت هذه الأجيال، التى جاءت فى حمى الحرب، من 1939 ـ 1945 منذورة للحلم بعالم جديد؟!
يقول عن نفسه: "عندما كنت صغيراً، كنا نسكن بقرب جامع السلطان حسن، وكان الترام الذى يمر فى الشارع الكبير – عندما يدور بجوار الجامع – يصدر صوتاً عظيماً. كان سائق الترام عندى أعظم وأهم رجل فى العالم، لأنه يقود هذا الوحش العملاق المهيب – وظللت أتمنى أن أصبح سائق ترام عندما أكبر. وكبرت ولكنى لم أتمكن من أن أكون سائق ترام بل ولم أستطع حتى أن أتعلم قيادة السيارات.. لكنى تعلمت الرسم وأصبحت مجرد رسام".
لم يكن منذورا إذن لأن يصبح قائد ترام، بل كان منذورا ليكون قائد مخيلة، يستطيع بها أن يغير العالم، ويصير (رب الريشة والقلم) كما أطلق عليه الناقد الفنى الكبير: د. على الراعى.
يقول اللباد: إن اختياره لدراسة الفنون الجميلة كان فضيحة كبيرة بالنسبة للأسرة ذات الأصول الريفية. لم تشجعنى الأسرة، ولكنها أيضاً لم تقمعنى.
ويقول: "فى السابعة أو الثامنة من العمر، لم أكن أستمتع بمشاهدة الأعمال الفنية المعقدة حرفياً، أتذكر حين كنت أتصفح مجلة الهلال فى تلك الفترة، وأشاهد النسخ المصورة للوحات عالمية كانت كثيراً ما تصيبنى بضجر لم أكن أعى مصدره، وفى ذات الوقت كان اهتمامى يتحول نحو رسائل بصرية أبسط بكثير، أقرب إلى واقعنا اليومى المعاش. اتجه اهتمامى إلى العلامات التجارية للمنتجات المتداولة آنذاك: باكو زهرة الغسيل ماركة زوزو، زجاجة كوكاكولا، طوابع البريد، علب الكبريت، ماركات السجائر، شخصية ميشلان، وغيرها من منتجات ارتسمت علاماتها فى وجدانى الذاتى، لتمثل فيما بعد ذاكرتى البصرية الأولى.
دخلت كلية الفنون الجميلة وكانت غايتى التخرج منها وأن أعمل ما أقوم بعمله الآن، وليس لأكون "فنانا" مصورا؛ أرسم اللوحات التى تعلق على الحيطان!!.
قطع
يقول "إن الأطفال لا يقبلون الوعظ والإرشاد والرمزيات السياسية التى توجه إليهم من خلال كتب الأطفال ولا يفهمونها، وأشار إلى أن مرجعه الوحيد والدائم كرسام وكاتب للأطفال هو محيى الدين نفسه عندما كان طفلاً. وأنه يعمل بعض ما كان يحبه ويشتاق إليه ويتمناه فى طفولته، وأنه يعود دائماً إلى هذا الصغير يستفتيه ويسأله.
وقال إن الحالة المثلى لإخراج كتاب مصور أن يكون الرسام نفسه هو كاتب النص، كى لا تكرر النصوص ما تقوله الرسوم، وحتى لا تتحول الرسوم إلى مجرد رسوم مصاحبة للنص، بل يجب أن تشكل النصوص والرسوم كياناً واحداً .وأشار إلى كتب الأطفال ليست قصصاً فقط، ولكنها معارف عديدة ومتنوعة، لكننا نبالغ فى وضع المعلومات فى شكل حدوته، فالمعرفة ليست دواءً مر يجب أن يشربه الطفل، ولا تحتاج إلى تحايل، فالمسألة ليست مؤامرة، والطفل دائماً مشتاق للمعرفة التى تناسب فئته العمرية.
قطع
كان اللباد يرسم الطبعة العربية، من الصحيفة الشهرية "لومند ديبلوماتيك"، التى تصدر عن دار النهار ببيروت، وكان المشرف الفنى والمصمم لمشروع اليونسكو "كتاب فى جريدة"، والمستشار الفنى للجنة الدولية للصليب الأحمر، كما أنجز التصميم الأساسى للعديد من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية وسلاسل الكتب فى العديد من البلدان العربية والأوروبية، وشارك فى تأسيس العديد من دور النشر منها "دار الفتى العربى" و"مجلة كروان"، كما ألّف الكثير من كتب الأطفال، التى ترجمت إلى العديد من اللغات العالمية، ونال كثيرا من الجوائز العربية والدولية، كما شارك فى جل المعارض المتخصصة فى الكاريكاتور ورسوم الكتب والتصميم الجرافيكى، وشارك فى التحكيم فى بعض المعارض الدولية.
قطع
عانى اللباد فى الآونة الأخيرة من نشر رسومه دون أخذ إذن منه مما سبب له كثيرا من الأضرار حتى أنه لجأ أخيرا إلى كتابة عبارة "حقوق الرسم محفوظة للرسام" إلى جوار رسومه الكاريكاتيرية!!، والعبارة فى حد ذاتها نكتة، ولكن ماذا يفعل الفنان وهو يصرخ قائلا" الكاريكاتور - يا سادة - ليس دائما نقشا لطيفا تزين به الصفحات، أو تخفف به النصوص ثقيلة الدم، كما أنه ليس شخبطة سهلة تملأ بها فراغات الماكيت؛ لكنه رأى. بل هو الرسام نفسه. ولا يملك أحد حق استعماله كيفما كان سوى صاحبه". واللباد يعلم أنه لا حقوق محفوظة للرسام فى الوطن العربى.. بل حتى الحقوق الحياتية فى أن يظل الرسام يرسم، غير مضمونه على الإطلاق!!
وقد قدم وكتب فى كتابه الفذ "نظر"عن الفنانين نبيل تاج - صاروخان - شافال الفرنسى - أنور (اليابان) - جورج البهجورى - الناصر الخمير / تونس - عبدالسميع - سعيد العدوى - صلاح جاهين - فؤاد الفتيح/ اليمن - ماهر - قاسى /الجزائر - سول ستاينبرج أو بيكاسو الكاريكاتير/ أمريكا وغيرهم.
أما الرسام بهجت عثمان فيعتقد اللباد أنه كان يرسم كاريكاتوره ببساطة آسرة وبخطوط اقتصادية أقرب إلى التقشف، كما أن رسومه خالية من كل إسراف ولا تتباهى بالمهارة ولا تنوء بجهد مبالغ فيه، ولا بوقت طويل أنفق فى أدائها، خطوط ذات سمك متقارب غير ملتبسة زواياها منفرجة غير خجلى من بساطتها وتندر بينها مساحات اللون الأسود الثقيلة، وتميل هذه الخطوط إلى الزخرفية، ولا تحاول الإيهام بالتجسيم ولا الإيحاء بالواقعية أو بوجود عمق منظورى فى المشهد لكن هذا الكاريكاتور ـ يضيف اللباد ـ عبر وأدى الغرض المطلوب منه بكفاءة نادرة وأوصل الرسالة المقصودة بلغة موجزة وعملية بدلا من البلاغيات المركبة وبمساعدة الطفولة الممتدة.
ويصف اللباد الفنان الفرنسى باى باى توبور بأنه يجعل القارئ يضحك هلعا، فهو يقدم عالمه المرسوم بطرق رسم عتيقة تستخدم سن الريشة المعدنى والحبر الأسود، وتحيلنا تلك الرسوم وأساليبها بسهولة إلى عوالم محفورات جيروم بوش الجحيمية التى تغص بالكائنات المسخوطة وإلى سلسلة أعمال فرانشيسكو جويا المحفورة والمعروفة بعنوان النزوات والحافلة بالكوابيس والشعوذات وأمراض الروح، وإذا ما فتشنا عن أحدث أساليب الرسم فى أعمال توبور، فربما نجدها فى المطبوعات الشائعة فى زمن جده.
ويتبنى رسام الكاريكاتير المصرى الأشهر حجازى ـ كما يقول اللباد ـ فى رسومه مشاكل الفقراء والمهمشين والمتعطلين، والإشارة إلى من أفقروهم وهمشوهم وسلبوا فرص عملهم، من المستغلين والمترفين والمتسلطين والفاسدين والمفسدين واللصوص ونقد النظام الحاكم ومعاداة أمريكا وإسرائيل وطرح الشاغل الجنسى تلميحا وتصريحا بدءا من رسم المتسكعين من طلبة مدارس وعجائز يعلقون على طالبات الثانوى الذين خرطهم خراط البنات وانتهاء بالسرير وأخيرا جلسات الحشيش وفيها غالبا ما يعلق الرسام على آخر الموضوعات السياسية الرائجة ويضفى بعض العبث على الأمور الجادة.
أما ريشة الرسام المصرى الراحل" عبد السميع" فيصفها اللباد بأنها كرباجية قوية وكانت تزدحم بالتحريض والسخرية، وذات قدرة فذة على تعبئة النفوس بالغضب والسخط والانشراح، وكان مصطفى النحاس رئيسا للوزراء وزعيما لحزب الأغلبية، إلا أن عبد السميع كان يشتمه على الغلاف وعلى الصفحات الداخلية ويسقط عنه كل هيبة، فحملت الرسوم تلميحات ذكية عن خضوع النحاس للملك فاروق الذى رمز إليه بحذاء ترك رباطه مفكوكا عن عمد بسبب سحنة صاحبه، كما رمز إليه بذراع سمينة مشعرة، وبالإضافة إلى تلك التلميحات رسم عبد السميع غولاً سماه الفساد، لكن أغلب الظن أنه كان يرمز إليه بشخصية الملك.
مزج
رحل صديقى وأستاذى الفنان الكبير محيى الدين اللباد، رحل قائد ترام المخيلة الجديدة، رحل المتعدد بحق، النادر الموهبة بحق، رحل كاتب الأطفال، وصانع أجمل التصورات عن كتبهم، رحل من كان يستشير طفولته وهو يخاطبهم فأحبوه بحق، رحل رسام الكاركاتير المتميز بنقده الاجتماعى والسياسى، رحل أهم صناع الكتاب بعد بيكار، رحل أهم مصمم للأغلفة والصحف والمجلات، رحل فنان الجرافيك الأول فى النصف الثانى من القرن الماضى، تاركا ابنه النابغ أحمد اللباد قائلا "لقد حرصت على أن أبتعد عنه وأن أتركه يتطور على خطوط من صنع نفسه، فإن سلطة الأب وسلطة (الأسطى) المتمثلة فى شخصى كانت كفيلة بأن تعوق تقدمه".
تركه إذن مع نفر قليل من تلاميذه ليكملوا مسيرته الفذة.
مع السلامة يا صديقى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة