معصوم مرزوق

ابن الشعب

الإثنين، 13 سبتمبر 2010 04:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
" أنت ابن مين فى مصر"؟!
سؤال وجيه، مغزاه عميق، حمال أوجه، ولكن عم شديد منادى السيارات لم يقصد سوى إبداء الاستنكار والاحتجاج وربما بعض السخرية، حين أصر ذلك الشاب النحيف أن يركن سيارته فى الموضع المخصص لقرنى باشا أمام العمارة، وكان صوت عم شديد العالى لا يتناسب مع فقر الدم الذى يعانيه، فأثار بعض المارة الذين وقفوا يستطلعون ما يدور، كان الطقس قيظ، مثلما هو معتاد فى منتصف أغسطس، والجميع يتصببون عرقاً، ويتنفسون شياطاً ودخاناً.. الحى نفسه راقٍ أو كان كذلك قبل سنوات، والآن يغمغم عم شديد بقرف:
"المنطقة لمت من يسوى ومن لا يسوى!!"، مصوباً عينيه المحفورتين خلف عظام الوجنتين البارزتين إلى عينى الشاب الذى كان قد انتهى من ركن سيارته وعلى وشك النزول منها .

أندفع إليه عم شديد كى يحجزه، مهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور، مكرراً تساؤله وقد تناثر رذاذ لعابه فى وجه الشاب: "أنت ابن مين فى مصر؟!"، وعندما تبين له أن الشاب غير عابئ، أضاف: "أنت عارف من صاحب هذا المكان؟"، همس الشاب وهو يغلق باب سيارته : " الحكومة !! "، ولكن عم شديد يعرف أن قرنى باشا ليس فقط صاحب المكان بل هو صاحب العمارة التى تشمخ بأدوارها العشرين فوق المكان، وهو رجل واصل ومؤذي، وإذا وجد سيارة تشغل موضعه فأنه سوف يعاقب عم شديد بل قد يضربه وينعل سنفسيل جدوده ويقطع راتبه، بل وسبق له أن قام بتحطيم زجاج سيارة وضرب صاحبها علقة مبرحة، وعندما وصلت الشرطة انتهى الموضوع بوضع صاحب السيارة فى التخشيبة وأضطر فى النهاية للاعتذار لقرنى باشا أمام كل الشارع..

حاول أحد المارة – من أبناء الحلال – أن يتوسط، فقال لعم شديد :
- هو المكان كان مكتوب عليه اسم صاحبه؟
فألتفت إليه عم شديد بغضب صائحاً:
- وحياة أمك خليك فى حالك!!
ويبدو أن الرجل الطيب لم يشأ أن يهين نفسه، فقرر أن يكون فى حاله، ومضى إلى حال سبيله هازاً رأسه وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، بينما أمسك عم شديد بتلابيب الشاب حتى يمنعه من الحركة، ولدهشته لم يقاوم الشاب بل وقف مستسلماً وهو يبتسم.

فى أثناء ذلك مرت سيدة بدينة ومعها بناتها، وساءها المنظر، فوقفت وقالت لعم شديد:
- يا رجل.. حرام عليك، أنه فى عمر أولادك!!
فزجرها عم شديد قائلاً بغضب:
- وأنت مال أهلك؟!
فكشرت السيدة عن أنيابها وقالت متقدمة إليه:
- أما أنك قليل الأدب صحيح!
ثم انحنت كى تخلع حذاءها، وبناتها يحاولن السيطرة عليها ومنعها، بينما ترك عم شديد الشاب وألتفت إليها متأهباً للعراك، حينذاك تحرك الشاب للابتعاد عن المكان، فعاد عم شديد قافزاً إليه وأحاطه بكلتا ذراعيه:
- على الطلاق لن تتحرك من هنا إلا على جثتى!!

ولدهشته مرة أخرى لم يقاوم الشاب، وظل على إبتسامته الهادئة دون أن ينطق بكلمة واحدة، لدرجة أن عم شديد أرتاب فى ازان عقل الشاب، ولكن ثقة الشاب الواضحة جعلته يخشى أن يكون ذا حيثية، فقاسه بعينيه، وقاس سيارته القديمة المتهالكة، وتأكد أنه غير ذى قيمة كبيرة، فشدد ذراعيه المحيطين به ليقيد حركته .

أحد المارة – من أبناء الحلال – تدخل قائلاً:
- يا بنى خذ سيارتك لمكان آخر.. الدنيا واسعة..
هز عم شديد رأسه مؤمناً، وقال معلقاً وهو ينظر بقرف للشاب:
- ناس غاوية مشاكل!!
فتشجع الرجل، خاصة مع السلبية الواضحة للشاب، واستطرد ببعض الخشونة:
- شباب آخر زمن.. هذا الرجل الغلبان فى سن والدك !
ولم تكن المرأة البدينة قد ابتعدت، ورغم أن بناتها وقفن حولها ليمنعوها من التقدم، إلا أنها قالت:
- رجل عجوز مخرف ابن كلب!
فأدار عم شديد رأسه إليها صارخاً :
- يا وليه .. احترمى نفسك أحسن لك!

لكنها واصلت شتائمها رغم رجاء بناتها لها أن ينصرفن، واشتبكت مع الرجل الطيب الذى تدخل لحل المشكلة، وتزايد الزحام بشكل كبير، وانقسم المتزاحمون ما بين مؤيد لموقف الشاب، ومدافع عن موقف عم شديد، وفى النهاية اقترب أحد جنود الشرطة ليتفرج، فناداه البعض كى يتدخل .. كان شاباً تبدو من هيئته وكلماته أنه قروى بسيط، ولكنه على أية حال لديه سلطة الحكومة، وأفسح له المتزاحمون كى يصل إلى المكان الذى يحتضن فيه عم شديد الشاب المبتسم .

قال الجندى:
- ما هى العبارة؟
فأوضح عم شديد العبارة دون أن ينسى أن يشير إلى العلاقة الوطيدة التى تربط قرنى باشا بمأمور القسم القريب، فأجفل الجندى وتوجه إلى الشاب قائلاً :
- أليس هناك إحترام للقوانين واللوائح ؟ .. قلة أدب صحيح .. أتفضل يا أفندى خذ سيارتك أركنها فى مكان آخر ...
قال الشاب دون أن تفارقه إبتسامته :
- ليس هناك أى مكان .. أنا أدور فى الشوارع منذ ساعة كى أجد مكاناً بلا فائدة .
تأمل الجندى حوله، فوجد الجميع ينظرون إليه فى إنتظار قراره، فالتفت إلى الشاب مرة أخرى معنفاً:
- ولم تجد مكاناً غير المكان المخصص لقرنى باشا !!
فقال له الشاب :
- ومن هو قرنى باشا ؟؟ .. أيكون سعد باشا زغلول !!

ورغم أن الجندى لا يعرف من هو سعد زغلول، إلا أنه شعر بلهجة السخرية فى سؤال الشاب، فأزداد خشونة ومد ذراعه الأيمن قابضاً على كتف الشاب، وهو يقول:
- الظاهر أنك مشاغب ولا تريد ليومك أن يعدى على خير!
علق الرجل الطيب الذى سبق له التدخل:
- يا حضرة الصول خذه إلى القسم.. هذا الولد يبدو إرهابياً..!!
فوجئوا جميعاً بالشاب ينفجر ضاحكاً، وهو يقول بصوت عال:
- فعلاً .. أنا أسامة بن لادن!!
شعرت السيدة البدينة أن ذلك الشاب لا يستحق ما تحملته من إهانة بسببه، فقالت له محتجة:
- أنت الظاهر خنفس لم تعرف من أهلك جنس التربية!!
فازدادت قهقة الشاب، وبدأ الناس يدقون أكفهم عجباً، بينما ازداد عم شديد ارتياحا، والجندى يجذب الشاب بقوة قائلاً:
- سوف يندم أبوك على أنه خلفك!!
فقال الشاب ببساطة وهو يحاول السيطرة على عاصفة الضحك التى خنقته:
- والدى هو وزير الداخلية!!

سأله الجندى مرة أخرى، وأجاب الشاب بنفس البساطة مبدياً إستعداده أن يبرز لهم بطاقته الشخصية التى تؤكد ذلك، وهنا تراخت ذراع الجندى القابضة على كتفه، وكذلك سحب عم شديد ذراعيه من حوله وكأنما لدغته عقربة، وران صمت لبرهة، حتى قال الرجل الطيب الذى سبق له التدخل:
- المسألة بسيطة يا أسيادنا.. لن تنهد الدنيا إذا ركن هذا الشاب سيارته لبعض الوقت..
بينما التفت الجندى إلى عم شديد قائلاً بتأنيب:
- هل تملك الشارع يا أيها الرجل؟ .. أمر غريب!.. كل بنى آدم له الحق فى شارع الحكومة.. وإذا فتحت فمك سوف أجرجرك للقسم.. حاجة تقرف..

كان عم شديد يدور بعينيه بين الشاب والجندى، ثم يتأمل للسيارة المتهالكة، وقد غمره العرق الغزير، سأل الشاب بصوت لاهث هامس:
- صحيح.. أنت ابن الباشا وزير الداخلية؟!
فهز الشاب رأسه، ومد يده إلى جيبه قائلاً:
- هل أخرج لك البطاقة كى تصدق؟
أتى صوت السيدة البدينة من خلف المتزاحمين قائلة:
- قلت منذ البداية أن ذلك لا يصح، وأن ذلك الرجل العجوز مخرف وابن كلب!
نظر إليها عم شديد من فوق أكتاف الناس دون أن يعلق، لكنه ابتعد خطوة عن الشاب حائراً، وقال فى استعطاف:
- لكن يا باشا لا يرضيك أن يؤذينى قرنى باشا..
فتدخل الجندى بصوت قاطع:
- قرنى باشا مين، يلعن أبوك على أبوه!
ثم التفت إلى الشاب قائلاً بصوت ناعم:
- اتفضل يا باشا لمصلحتك.. وسوف أحرس السيارة حتى تعود..

تأهب الشاب للمغادرة بالفعل، إلا أن عم شديد الحائر رجاه أن يترك معه البطاقة الشخصية حتى إذا أتى قرنى باشا أظهرها له كى يتقى غضبه، فوضع الشاب يده فى جيبه ثم قال أنه نسى البطاقة فى المنزل، وتحرك مبتعداً والناس تفسح له الطريق، وعندما أصبح على مسافة مائة متر من مركز الزحام، وقف ثم أستدار قائلاً بصوت عال وهو يضحك:
- أبى ليس وزير الداخلية.. أنا ابن الشعب...

ثم طفق يعدو، واندفع الجميع خلفه يلعنون ويشتمون..

• عضو اتحاد الكتاب المصرى.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة