فصل من رواية "الجورنالجى" لنصر رأفت

الأحد، 12 سبتمبر 2010 01:38 م
فصل من رواية "الجورنالجى" لنصر رأفت صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه" لم تكن الشهادة الجامعية هى أزمة ناجى شرف الدين، ولم يكن التخرج معضلته المستعصية، بل كانت أم الأزمات هى التى اصطدم بها بعد التخرج من الجامعة، وحصوله على البكالوريوس فى الإعلام، ودائما طوال سنوات الدراسة فى قسم الصحافة بجامعة القاهرة كان صديقه عزت النجار زميل غرفته فى المدينة الجامعية يقسم له بأغلظ الأيمان أنه رأى بعينيه فى مكتب شئون الطلاب بالكلية الآلاف من شهادات البكالوريوس المطبوعة على بياض، وتنتظر فقط أن يمسها الحبر لتدوين أسماء الطلاب.. الكلية ليست فى حاجة إليها.. إذن فالتخرج مضمون، ولكن الطامة الكبرى تأتى بعد ذلك.. فالجو معبأ بالمتعطلين، والبطالة تبث سمومها فى جسد المجتمع كسرطان رهيب، ولا مجال لاختراق سوق العمل والإفلات من قبضة البطالة إلا ببركة دعاء الوالدين أو وساطة أحد الواصلين ذوى النفوذ فى هذا البلد.

ولت سنوات الدراسة كطيف خفيف لطيف عابر، مرت كحلم وردى هادئ رومانسى، وتراءى له الواقع بعد ذلك قاتم مثل كابوس كئيب أسود لا فكاك منه.

انتهت علاقته العابرة بحاضرة مصر، وقاهرة المعز فى يوم تخرجه، وكأنه يوم خروجه النهائى الأبدى من تلك المدينة التى تشبه زوجة الأب الشرسة التى تقسو على ضيوفها من الغرباء وتبارزهم بلا هوادة ولا رحمة.

تحنو على أولادها فقط، وتقسو على ما سواهم، وتبدو بلا قلب ولا منطق عكس كل المدن التى لها قلوب ومشاعر، هى مدينة ليست كالمدائن الأخرى فى العالم، مدينة لها فلسفتها وأبجديتها السريالية التى تثير حيرة الكثيرين فى كل زمان ومكان.

عاد ناجى شرف الدين إلى قريته النائمة على كف النيل، ولا مكان لها على خريطة المحروسة سعيداً تعيساً، فرحاً مرحاً قلقاً هلعاً، نال من جامعة القاهرة العريقة بغيته، وحقق مأربه، وحصد شهادته العليا، وانتزع حلمه من علمه، وصار واحداً من حملة الدرجات العلمية الكبرى فى قريته الصغرى، ومن كلية مرموقة يطلقون عليها فى الصحف كلية القمة.. كانت- ومازالت- تلك الكلية مقصد الفقراء وأولاد الذوات، ومحط أنظار أبناء الأكابر والأكرمين.. فهى المفتاح السحرى الذى يفتح أمامهم أبواب صاحبة الجلالة، ويمنحهم تأشيرة عبور ملكية إلى فضاء الشهرة الصحفية والنجومية فى القنوات التليفزيونية، والمحطات الإذاعية.. ولم لا؟! والإعلام صار هو البريق البراق لكل باحث عن شهرة أو ثروة أو مجد ذاتى.. ولم لا؟! وتلال الصحف السيارة تتوالى فى الصدور، والمطابع لا تتوقف وتلقى بثمارها وفلذات أكبادها على الأرصفة وفى المكتبات مع بزوغ كل فجر، ومئات الفضائيات تملأ السماوات، والأقمار الصناعية تجول فى الآفاق، وتتزاحم فوق السحاب وتقض مضاجع الكواكب والأفلاك، وتزعج سكون المجرات!

لم يصدق ناجى شرف الدين أنه أتم رسالته، وأكمل مهمته، وعاد من القاهرة بشهادته التى طالما سمع أمه تدعو له باقتناصها فى كل صلواتها، وانضم لطابور العاطلين المكتئبين، ولم يصدق أيضاً أن تكون تلك نهاية رحلته بين الكتب والفصول والمحاضرات والمدرجات، فهو لم يقصر ذات يوم فى أى شىء، لم يتكاسل عن أداء واجب، ولم يتخاذل عن الدرس والبحث والفحص والمحص، وإنفاق نور عينيه بين الكتب حتى نجح بتفوق فى كل مراحل دراسته، ولم يخطر له يوماً على بال فى أسوأ حال أن تفعل الحكومة فعلتها، وترفع يدها- التى كانت بيضاء- عن الخريجين، وتنفض ولايتها عن تعيينهم، فجأة وبلا مقدمات وجد نفسه كما لو كان عارياً فى ميدان عام، والدنيا كلها تتفرج عليه، لقد تخرج فى واحدة من أعظم الكليات.. فلماذا إذن تركوه هكذا؟!

لماذا إذن كرمه محافظ الغربية بعد حصوله على 90% فى الثانوية العامة؟! ولماذا ألقوا به فى النهاية لوحش البطالة كى يفترسه بضراوة؟!

أليس هو ذات الشخص الذى تفوق، وحصد الدرجات العليا فى كل المراحل التعليمية؟!

لم يستطع أن يتفهم هذا التناقض المريب فى هذا البلد الغريب، وذات مرة طرح هذا التناقض على واحد من أبناء قريته كان قد هاجر إلى فرنسا قبل عشرين عاماً، ثم عاد فى إجازة قصيرة لزيارة الأهل والأحباب، وقراءة الفاتحة على روح ذكريات الصبا والطفولة، ومطلع الشباب.. فقال الرجل:

- يا ناجى لا تنس أنك تعيش فى مصر وما أدراك ما مصر.. إنها بلد المتناقضات.. المضحكات المبكيات.. ولو اطلعت على دستور مصر يا عزيزى سترى العجب العجاب!

انبرى ناجى دهشاً متسائلاً:
- الدستور.. ماذا فى الدستور؟!

قال الرجل العائد تواً من بلاد الجن والملائكة:

- المادة الثانية من دستور مصر تنص على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.. أما المادة الخامسة من الدستور المصرى أيضاً تقول: "لا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أيه مرجعية دينية أو أساس دينى".. هل هناك تناقض، وتضاد أكثر من ذلك يا صديقى؟! الحمد لله أننى فضلت الهجرة عن هذا البلد منذ سنوات وعقب تخرجى من الجامعة، وسافرت إلى فرنسا، وحصلت على جواز سفر وجنسية فرنسية، ولو بقيت فى مصر حتى اليوم لمت كمداً وهماً وغيظاً أو أصابنى مس من النجوم!

تساءل ناجى شرف الدين بإعجاب:

- وكيف تحفظ نصوص الدستور المصرى، وأنت تعيش فى باريس منذ أكثر من عشرين عاماً؟!

- الدستور يا ناجى لم يتغير منذ كنت تلميذاً فى الابتدائية، وأظن أنه لن يتغير فى حياتنا، قد يتغير القرن القادم أو بعد القادم الله وحده يعلم ولا تنسى أن بعض مواد الدستور كان مقرراً علينا حفظها، ونحن فى المرحلة الابتدائية ضمن مادة التربية الوطنية، التى كنا ندرسها فى ذلك الزمن، وأعرف هذا التناقض منذ كنت طفلاً غراً!

كما أن هذا الأمر ليس هو أول ولا آخر المتناقضات فى مصر المحروسة.. بل هناك فى الوقت الحالى حوالى 1800 مستشار فوق الستين من العمر- يتقاضون أكثر من مليار و200 ألف جنيه سنوياً، وأنه لا توجد معايير محددة لاختيارهم بالإضافة إلى عدم وجود نص قانونى لتحديد مهامهم أو رواتبهم، هل يعقل ذلك فى دولة تئن من البطالة ويصل عدد العاطلين بين شبابها أكثر من أربعة ملايين عاطل؟!

لاذ ناجى بالصمت الرهيب شارداً يفكر فى لا شىء ويحدق فى الفراغ وهمس لنفسه دون أن يسمعه أحد:

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. الهجرة صارت الآن من رابع المستحيلات، ومن لم يمت اليوم فى بلده كمداً من أحوالها وتناقضاتها، مات غرقاً فى محاولات السفر أو ألقوا القبض عليه بتهمة الشروع فى الهجرة السرية غير الشرعية إلى جنة أوروبا الموعودة!





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة