مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مازال الريف مستودع القيم رغم كل ما حدث له طوال السنين العجاف الماضية، كان المتخصصون فى علوم الاجتماع والسكان يتحدثون بتعالٍ عن غزو الريف للمدينة، وكان أصدقائى من أبناء المدينة يسخرون مما يسمونه خبث الفلاحين، وكنت أعتبر ذلك نوعاً من الغيرة والحسد، وأتمادى أحياناً فأعتبر أن من لا ينتمون للريف مجرد سيقان معلقة فى الهواء بلا أصل أو جذور، وذلك رغم أنى لم أعش فى القرية إلا ست سنوات فقط من عمرى المديد، إلا أننى أنتصر دائماً لنمط القيم الريفية بكل ما يحتويه من عناصر والتحدى والصبر والجدية، بالإضافة للمروءة والشهامة والكرم
ومن أسوأ ما سمعناه من خلال العقود الماضية ما كان يردده بعض المسئولين ومعهم بعض الإعلاميين عن الفلاح (الخرسيس) الذى يسهر أمام التليفزيون ويكسر القُلة والزير من أجل الثلاجة، ويترك الذبدة والفطير المشلتت والجبنة القديمة من أجل خبز الأفران المدعم، كانوا يتحدثون بمنتهى التعال والاشمئزاز على الطريقة التركية الباشاوية، على اعتبار أن الله قد خلق الفلاحين ليخدموا باكاوات المدينة، وعليهم أن يقنعوا بذلك فلا يقاسمونهم حظوظهم فى التعليم والحداثة وكذلك الوظائف العليا، ينظرون إلى أبناء الريف كمواطنين درجة ثانية، يهللون ويرحبون بأسيادهم القادمين من المدينة، تبتلع المدينة (البندر) كل الخدمات وتبقى القرى كجزر معزولة، هذه اللغة المتعالية والساخرة استشرت منذ السبعينيات فى الوقت الذى بدأت فيه الرأس تتضخم وبدأ معها هزال الأطراف، وعانينا كثيراً من ظاهرة التنكيت على أهل الريف والصعيد، كظاهرة قصد بها تحقير كل التخوم (المنتجة) لصالح المركز (المستهلك)، ومنذ ذلك الحين لم نر خطة تنمية واحدة توحد الله، لأن المنتجين الحقيقيين صاروا غرباء فى الوطن، وكانت الهجرة للدول النفطية منذ السبعينيات هى الملاذ الآمن لهؤلاء حتى يدخلوا المنطقة الخضراء، وبعدها خرجت قطاعات كبيرة من الريف والمدن الصغيرة لتزحف وتحتل حزام القاهرة الكبرى، حيث يحيون كالأموات أو فى حضن الأموات على فتات الطبقة الجديدة التى حولت المال إلى سلطة، بعد أن تم تغليفها بغطاء أخلاقى دينى.
وانتهى الأمر بخروج الريف القديم والمدينة القديمة من كل الحسابات، بعد أن سقطت قيمة العمل وسقطت معها قيم التماسك الاجتماعى، سواء تلك التى كانت فى حارة المدينة وأزقتها، أو التى فى الكفور والنجوع.
جالت بخاطرى كل هذه المعانى وأنا فى الطريق إلى قريتنا بالشرقية لحضور عيد الفطر المبارك، تذكرت ليلة العيد التى تتحول فى البيوت إلى ورش لصناعة الكحك والبسكويت والغُريّبة، تتجاور الأمهات والبنات والصبية، كلُُ يقوم بدوره بعناية، وكنت فى صبايا أمهر من نقش بالمنقاش، وصنع أشكالاً مبهرة، الآن أعلم أنهم لن ينتظروا منقاشى ولا نقشى على العجين، فما بقى من هذه الذكريات إلا القليل، لكن تبقى رائحة زمان فاعلة فى اللحظة الآنية وباعثة على السعادة فى عز أيام الشقاء، وكل عام وأنتم بخير.
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة