معصوم مرزوق

تأشيرة خروج

الجمعة، 10 سبتمبر 2010 09:31 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تجمعوا فى صرة الميدان.. زحام كثيف.. دائرة تتسع.. صخب.. عرق.. لهاث..

فى مركز الدائرة، نائماً فى هدوء واستكانة، فوق ملامح وجهه الصبى المجهد ابتسامة متقهقرة.. جلبابه بالكاد يستره، ولكن ساقيه النحيلتين تطلان منها كعودين من القصب الممصوص، فى نهايتها قدمان مفرطحتان عليهما طبقات من الطين والوسخ.

- جاء من قريته ماشياً!
قال رجل.. مصمصت امرأة شفتيها، غمغمت:
- مسكين!
ابتسم شاب تتعلق بساعده فتاة ممشوقة، قال متهكماً:
- ليعلم الغزاة الريفيون أى مصير..!
قرصته الفتاة فى الوشم المرسوم على راحة ساعده حين كان أحدهم يتساءل:
- كيف مات ؟
سارعت سيدة فاضلة بالقول فى لهفة:
- لم يمت.. انظروا إلى ابتسامته..
قالت أخرى متعجبة:
- أنا لا أرى سوى دموع فى جفون ميتة.
التفت إليها كهل رث الثياب منزعجاً وهو يتساءل:
- هل يبكى الميتون أيضاً؟!

قهقه البعض وتأسى البعض الآخر.. الزحام يشتد.. الجميع يريدون التقاط الصورة.. يتدافعون، يتشاجرون، لا يريدون أن تفوتهم اللحظة، والصبى هادئ مستكين.
- افسحوا.. أنا طبيب..

أفسحوا.. دنا منه.. انحنى عليه.. جس النبض.. رفع بسبابته الجفن المتصلب، كانت الحدقة العسلية مسترخية فى الجانب الأيسر لكنها ترسل وميضاً خافتاً كاتهام مبهم، انعكست عليها صورة الزحام فى ومضة أرعدت الناظرين فأوجسوا، ثم عاد الجفن يغطيها، وقف الشاب متنهداً، ومن طرف أنفه الأقنى قال للمجاورين فى تأفف:

- مات..
أمطرته الأسئلة:
- جوعاً؟
- حادثة؟
- برداً؟
- خوفاً؟
- ظمأ؟

أحنى رأسه متفحصاً فى الوجه الهادئ المستكين، لوى شفتيه ممتعضاً، وقال متسائلاً:
- ألا تشمون الرائحة؟.. هذه جثة تعفنت منذ زمن طويل..
أخرجوا المناديل ودسوا أنوفهم بينما اقترب آخر وفتش الجيب الوحيد، أخرج بطاقة خضراء متآكلة تشربت بقع العرق الصفراء، قلب أوراقها، ثم لاح على وجهه الاندهاش.. لا صورة، لا اسم، لا عنوان.. كل ما هنالك: تأشيرة خروج..
بدأ الزحام ينقشع، والمناديل فوق الأنوف، والأسئلة تتطاحن:
-جوعاً؟
- حادثة؟
- برداً؟
- خوفاً؟
- ظمأ؟

* عضو اتحاد الكتاب المصرى








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة