بصرف النظر عن قيمة وقدر لوحة زهرة الخشخاش التى سرقت مؤخرا من أحد متاحف مصر المحروسة، وهى اللوحة الوحيدة لدى مصر من أعمال الفنان ( فان جوخ)، بالمناسبة الخشخاش ده هو النبات المعروف عند العامة بالحشيش، والذى يؤخذ منه الكيف للمحششين، أقول بصرف النظر عن القيمة الفنية للوحة والقيمة الفعلية كونها عمل أصلى لفنان من فنانى العالم المتميزين والمشهود لهم، فإن ما أثار دهشتى تلك الضجة الكبيرة التى صاحبت سرقة اللوحة، وكأننا تفاجئنا بالسرقة ومبعث عجبى ودهشتى أن الجميع يعلم وأولهم الوزير الذى بدأ وصلة النواح على ضياع اللوحة بعدما أعلن عن فقدها ثم أعلن وبسرعة عن استعادتها (طبعا وإلا كيف يكون هو الوزير وتسرق اللوحة فى عهده ده حتى عيب، خاصة وهو الوزير الفنان؟).
ثم تراجع بعد ساعات قليلة عن تصريحه البطولى الذى أعلن فيه استعادة اللوحه ليؤكد أنها مازالت مفقودة ولأن الجنازة حارة والميت لوحة (بس مش أى لوحة ده لوحة عالمية والجميع يترقب أخبارها) فقد فكر الوزير العبقرى فى كبش فداء لعل الألسن تقطع والصمت يعم وتتم (الطرمخة) كالعادة لكنه يعى جيدا أن الموضوع ليس بتلك البساطة فهداه تفكيره الحلزونى إلى أن الحل يكمن فى أن يكون هناك أكثر من كبش فداء ويتفرق دم اللوحة بين القبائل، وحتى يتم مناقشة من المتسبب وهل هذا القرار عادلا أم لا وهل تستحق اللوحة حصد هذه الرءوس، يكون ربنا فرجها من عنده وحدثت سرقة أخرى تلهى عن الأولى أو يكون العيد قد حل ويتلهى الناس فى مصاريف الكعك والعديات ومن بعدها مصروفات المدارس وهم العيش وغم الحياة.
لكن ما فات على الوزير النبيه الفطن أن اللوحة لا تهم رجل الشارع العادى الذى أغرق فى بحر الهم من زمن وبات وجوده فى باطن أرض الكنانة أفضل ألف مرة من عيشه على ظهرها وهو لا يهمه من موضوع زهرة الخشخاش إلا اسمها الذى يدرك جيدا أنه متعلق فى عقله الباطن بالمزاج والكيف الذى ينسيه بعضا من هم الحياة حين يشد نفسا من (لى الشيشه) فى غرزة أو قهوة بلدى متواريه عن الأنظار يستطيع أن يتناول كرسى المعسل المصحوب بالحشيش فيها، أما متحف ولوحة وكلام فاضى فهذا أبعد ما يكون عن زهن الإنسان البسيط الباحث طوال الأربع وعشرين ساعة عن ما يسد رمقه ورمق أولاده، المصيبة هى فى العالم المحيط بنا، خاصة بعدما أصبح العالم قرية صغيرة وما يحدث فى أى مكان يكون حديث العالم كله بعد ثوان معدودة، ولأن كثيرا من دول العالم لا يعانى أبنائها مما نعانى نحن منه فى منطقتنا فإن لديهم الوقت والجهد لمتابعة موضوع سرقة اللوحة ومتابعة ما حدث وما سوف يحدث ويطلبون معرفة كل التفاصيل وكيفية معالجة القضية وكيف سيكون هناك ضمان بألا تتكرر تلك الحادثة مع أى شىء يمثل التراث الإنسانى.
والوزير الذى خسر معرفة اليونسكو من أشهر قليلة لا أريد أن تزداد فضائحه أكثر وأكثر وهو الجالس على عرش الوزارة لأكثر من عشرين عاما ويطمع أن يجلس حتى توافيه المنية لأن مصر المحروسة عجزت على أن تلد من يكافئه موهبة أو يقارب عبقريته الفذة! لذا فقد قبع فى موقعه لا يبارحه، ولان مبدأ المحاسبة قد غاب واختفى فإن ما حدث ويحدث سواء فى وزارة الثقافة أو غيرها لن يجد من يصحح مساره أو يصوبه (عملا بقول أعطوا القط مفتاح الكرار)، المختلف هذه المرة أن اللوحة تلقى اهتماما عالميا وهى لفنان عالمى ومعروفة ولا يمكن بأى حال أن يمر موضوع سرقتها هكذا وسيكون هناك ألف سؤال وألف علامة استفهام، لم يتم إصلاح وتحديث أنظمة المراقبة والحراسة؟ وأين دور المتابعة والرقابة؟ وكيف تكرر سرقة نفس اللوحة ( اللوحة تمت سرقتها واسترجاعها فى سبعينيات القرن الفائت) وإذا كان هذا قد حدث للوحة تحت الضوء تعرض فى متحف عام فما هو مصير آلاف القطع الأثرية واللوحات التى لا تقدر بثمن ولا يعرف عنها أحد شيئا والتى يحتفظ ببعضها فى مخازن الوزارة على أمل عرضها يوما، نعم يحتفظ بها فى مخازن وزارة الثقافة وليس الهيئة العامة للآثار، أليس من الأولى أن نعرف مصير هذه الثروات التى لا تقدر بثمن!
وقد بدأت كلامى وأنا أعرف أن البعض سيتعجب مما سردت لأنى أتحدث عن سرقة لوحة مهما كانت قيمتها فهى فى النهاية لوحة واحدة لفنان واحد يقدره البعض وينتقده البعض، لكننى حين آثرت الموضوع لم يكن ليهمنى أمر تلك اللوحة التى هى ومع كامل احترامى لآراء الجميع فهى فى نظرى مجرد شخبطة ألوان مختلطة يطغى عليها الأصفر والأخضر لزهرة لا تحمل بعضا من جمال وردة بلدى أو زهرة بنفسج أو حتى زهر توليب كل ما يميزها أن رسمها أحد أساطين الفن كما يصنفه البعض.
أما سبب ما كتبت فهو تفاهتنا حين نركز على سرقة لوحه خطها فنان أى كانت قيمته وقيمة ما رسم ثم نتناسى أو نجبن عن مواجهة حقيقه سرقة أمه بكاملها سرقة أحلام شباب وفتيات أمة بكاملها وتاريخ أمه وعمر أمه، نتاغضى بلا مبالاة ووضاعة عن مواجهة حقيقه أننا جبناء رضينا بأن يسرق التاريخ وتضيع الأمجاد وتسقط أمه من عليائها نتيجة لخضوعنا وذلنا لتصبح نهبا مستباحا لكافة الأمم نركز ونبحث ونتساءل عن مصير اللوحة ونضع الخطط لاستعادتها ونجند الأجهزة للبحث عنها، ونغفل عن فعل الشىء نفسه فى سبيل استعادة ما سرقه لصوص هذه الأمة من أبنائها بعدما استباحوا بيضتها واستحلوا نهبها وحولوا أبنائها إلى عبيد متسولين فى أمتهم التى نشب الظلم فيها نابه بأيدى بنى جلدتهم قبل أيدى أعدائها، ثم تداعت الأمم عليها ليستكملوا مسلسل النهب والسرقة تارة بقرارات دولية وتارة بتحالفات مشبوهة مع شياطين الإنس من أبناء امتنا وقواديها.
لا غرو أن استعادة اللوحة ربما يكون هاما بما تمثله لدى البعض من قيمة وبما لها من قيمة أدبية وفنية، وعملا بمبدأ استعادة الحقوق وإحقاق الحق ومحاسبة المقصرين، لكن أن يحدث هذا وفقط من أجل لوحة ثم تقلب الموازين فيما يخص مستقبل هذه الأمة ولا نسعى لإنفاذ نفس المبدأ فلا نضرب بيد من حديد على أيدى العابثين بمستقبلها ونترك لصوص الأقوات والأمال يعيثون فسادا وإفسادا فهذا منطق معوج ولا يستقم بأى حال فنحن أما نطبق المبادئ بصورة شامله أو نتخلى عن تطبيقها تماما طالما كنا عاجزين عن تطبيقها فى المجال الأهم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة