على جمال الدين ناصف يكتب: مقياس الشباب والشيخوخة

الإثنين، 09 أغسطس 2010 09:14 ص
على جمال الدين ناصف يكتب: مقياس الشباب والشيخوخة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قد جرت العادة أن الأطباء وعلماء الإحصاء يقدرون الشباب بالسن، فهو المقياس الذين يعتمدون عليه فى ذلك، فمن بلغ سن العشرين أو قبل وبعد ذلك بقليل فهو شاب، إن أردت أن تعرف المخلوق أطفل أم شاب أم شيخ، ما عليك إلا أن تغمض عينك وتعد السنين، ولا تنظر إلى قوة أو ضعف، ولا إلى صحة أو مرض، كما سار على هذا النمط أيضا علماء اللغة، فقالوا: مادام الإنسان فى رحم الأم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، ثم إذا طقع الرضاعة فهو فطيم، فإذا كان يجاوز عشر سنين أو جاوزها قليلاً فهو ناشئ، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل إلى الستين.

إلا أنه هناك فئة وأنا منهم لا نعترف بأقوال الإحصائيين، ولا أقول اللغويين، فقد يسمى فى عرفنا الشيخ شاباً متى حاز صفات الشباب، وقد يسمى الشاب شيخاً إذا حاز صفات الشيوخ، فالعبرة عندنا فى التسمية بالصفة لا السن، فهى من غير شك نظرة جريئة ومذهب جديد ينظر فيه إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى النتائج لا إلى المقدمات، وإلى الغاية لا إلى الوسيلة.

ولعلنا رأينا يأتى من أن إذا قسنا العلم وقسنا الكفاية، وقسنا الخلق والصلاحية للأعمال لم نرجع فى شئ من ذلك إلى السن، بينما نرى أنه من المستهجن إذا قيس الشباب والشيخوخة رجع إلى السن ..!! فهى بذلك ترى أن السن ليس مقياسا للشباب، وإنما فى أحسن الأحوال، هو علامة للشباب، وقد تختلف العلاقة كحكمنا على الرجل بالعلم لأن لديه شهادة البكالوريوس فى الاقتصاد أو الليسانس فى الحقوق، وقد يكون لديه الماجستير أو الدكتوراه وليس بعالم..!! كما يكون الرجل فى سن العشرين وليس بشاب. إن الشباب أو الشيخوخة معنى لا مادة، فقد تعلمنا فى مدرسة الحياة ومن قوانينها أن المادة تقاس بمادة، والمعنى يقاس بمعنى، فنحن نزن التفاح المادى بالكيلو المادى، ونقيس اللبن المادى باللتر المادى، ونقيس أبعاد الحجرة المادية بالمترالمادى، ولكن من السخف بمكان أن نقيس الفضيلة أو الجمال أو القبح، بالكيلو أو اللتر أو المتر، فلم نقيس الشباب وهو معنى بالسن وهى مادة؟، ولو قمنا بتدقيق النظر إلى المقياس الصحيح للشباب، سنجده هو محصلة لمجموع قوى نفسية، هو حاصل جمع لصفات خلقية، إن شئت فقل هى إرادة قوية تعزم العزم لا رجوع فيه، وترمى إلى الغرض لا سبيل إلا إليه، تعترض الصعاب فلا تأبه لها، وقد تقر بصعوبة الأمر، ولكن لا تقر باستحالته، والشاب هو العاطفة القوية المتحمسة الصحيحة، ومظاهر صحتها أنها ثابتة، وليست مائعة مضطربة تذهب تارة يمينا وأخرى يسارا من غير غرض يحدد اتجاهها، وليست مائعة تحب فتذوب فى الحب، وتغضب فتجن فى الغضب، ألجمها بعض الإلجام.. العقل والمصلحة والغرض.

والشباب هو أيضا الخيال الخصب الواسع الأفق المترامى الأطراف الذى يرسم الأمل ويبحث على الطموح، ويحمل المرء على أن يتطلب لنفسه ولأمته حياة خيرا من حياتها الواقعية.. هذا المزاج الذى يتجمع من إرادة قوية وعاطفة حية وخيال خصب هو الشباب، وبمقدار قوتها وتلاؤمها تكون قوة الشباب، وبمقدار نقصها تكون الشيخوخة، فإن شئت قلت أن الشباب موجب والشيخوخة سالبة، والشباب إقدام والشيخوخة إحجام، والشباب نصرة والشيخوخة هزيمة..!!

و كما فى الماضى إعتادت الناس وجعلت الرأس من علامات الشيب والشباب، فسواد الشباب وبياض المشيب وما جرى عليه القول فى الشيخوخة والشباب وهو أيضا مركز القول عند الشعراء والأدباء حتى ألفوا فى ذلك الكتب الخاصة، ومن أشهرها كتاب "الشهاب فى الشيب والشباب"، أما علامات الشباب والشيخوخة فى رأينا فليس موضعها الرأس، لأن موضعها القلب، فاليأس شيخ لأن اليأس ضعف فى الإرادة وضيق فى الخيال وبرودة فى العاطفة، والشيب شيب فى القلب لا شيب الرأس، فمن لم ينفعل لمواضع الانفعال، ولم يعجب من مواضع الإعجاب، ولم يستكره فى مواضع الاستكراه، ولم ينازل فى مواضع الكفاح، ولم يطرب للموسيقى الجميلة والمنظر الجميل، ولم يهتج للأحداث، ولم يأمل ولم يطمح، فهو شيخ أى شيخ، شاب قلبه وإن كان أسود الرأس حالكة.

فإن أردت أن تعرف أشيخ أنت أم شاب، فسائل قلبك لا رأسك : هل ينفعل لذلك انفعالا قويا فيهيم ويغار ويدافع ويضحى؟، هل يتصل بالعالم فيتلقى أمواجه الأثيرة من الناس، ومن الأرض، ومن البحر ومن الجبل، ومن السماء، ثم يلقى بأشعته.. كما تلقى.. على كل من حوله، فينفعل ويفعل، ويتأثر ويؤثر، فهو كالقمر يتلقى من الشمس ضياء وهاجاً، ويعكسه على الأرض نوراً وضاءً؟ هل يبادل من حوله حباً بحب، عاطفة بعاطفة، وخيراً بخير، وأحياناً شراً بشر؟ وهل يترك العالم خيراً مما تسلمه؟ أو أنه قلب بارد كالثلج، جامد كالصخر، لا طعم له كالماء، ميت كالجماد، مغلف كالخرشوف، إن كان الثانى فشيخ، وإن كان الأول فشاب.









مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة