دخلت من الباب تملؤها الهيبة والثقة، ترتدى رداء الوقار والعفة.. إطلالتها أجبرت الجميع على احترامها وصارت البسمات تتطاير فى محيط وجودها كدليل على احترام الجميع لها، جلست أمامه وبينهما مكتبه المكتظ بأوراق القضايا والملفات الهامة.. ولفرط إعجابه بقوة شخصيتها وأداءها الراقى ترك لها الوقت الذى يكفيها لتقول بلاغها.. وبدأت فى الحديث.. كانت الكلمات تخرج متناسقة فى أدب شديد يدل على رقى الشخصية وثباتها:
"سيدى النائب لقد عشت طويلاً بما يكفى لكى أقرأ أحداث الدنيا من حولى وأفهم تغيراتها، ولكن ما حدث لى لن يرضيك ولن يرضى أحد.. فقد سـُرقت يا سيدى.. سرقوا منى أولادى"، خيم الذهول والصمت لبرهة على المكان، كيف تبلغ أم عن ضياع أولادها بهذه البساطة والهدوء؟ ثم إنها تقول "سرقة".. أى اختطاف، فالأبناء لا تتم سرقتهم ولكن يتم خطفهم.. ازداد اهتمامه بما تقول وأدرك إنه أمام حالة نادرة وخطيرة، طلب منها أن تكمل بلاغها فقالت: "إننى أم من سنوات طويلة وعندى أبناء كثيرين.. منهم العالم والطبيب والمهندس.. بل إن لى فى كل مجال ابن، وكانوا جميعاً أقوياء.. أوفياء.. وكانت الشجاعة والشهامة أهم خصالهم.. ولهم ابتسامة تشرق لها الدنيا، كانت آمالهم أحلام قابلة للتحقيق.. وآلامهم دعوة للكفاح، كان لى أولاد يعرفون معنى إحترام وحب الأم، يسهرون على راحتى ليل نهار ولم يبخلوا على بأى غالى.. حتى أرواحهم.. كانوا وكانوا.. "، صمتت لحظة وكأنها دهر، ترقرقت دمعة من عينيها ومنعها الكبرياء أن تجرى على وجنتيها، أدرك هو إنها أم عظيمة فخورة بأبنائها، ولكنه كان متشوق لمعرفة ما الذى حدث بعد كل هذا الفخر، ولماذا تستخدم كلمة "كانوا"؟ فأين هؤلاء الأبناء الآن؟، وكيف تم خطفهم بالرغم إنهم أناس كبار وعظماء؟ أسئلة محيرة قفزت لذهنه ولم يشأ أن يزعجها بها فتركها تكمل حديثها، فقالت: "سيدى لقد اختفى هؤلاء الأبناء الأوفياء.. الصابرين.. الباسمين.. ذهبوا بأخلاقهم واحترامهم.. استيقظت اليوم فلم أجدهم بجوارى وورائى كما اعتدت أن أجدهم.. أو أن أعتمد عليهم، فمن لى غير أبنائى؟، ومن سيهتم بى الآن؟"، ولم تقو على دموعها فغلبت كبرياءها وثقتها بنفسها.. بكت الأم ولكن دون صوت.. لم تنتحب أو تجهش، بل دموع تسيل على وجنتيها فى صمت رهيب ..لازالت الكرامة والعزة أقوى من الضعف عندها، لازالت مرفوعة الرأس رغم خسارتها المؤلمة فى أبنائها، حاول أن يهدئ من روعها وطلب منها أن تعطيه الفرصة كى يساعدها ويعيد لها مجد الأبناء.. ولكى يفعل كان عليه أن يعرف كيف بدأت هذه المصيبة.. وأجابته: "عندما لم أجدهم بالمنزل سألت عنهم بعض الجيران والأصدقاء لعل أحد يعرف أخبارهم أو يدلنى على مكانهم فأذهب إليهم.. لكنهم اختفوا.. قالوا لى ربما هو الفقر الذى هاجم أسرتى فتسبب فى جحود أبنائى، فقلت كنا أفقر من هذا يوماً وكانوا يبتسمون ويعملون ويملؤن الدنيا أمل دون ملل أو يأس أو تعب.. قالوا لعل زحام المدينة أرهق أعصابهم فجعل أخلاقهم أقل وصبرهم ينفذ فرحلوا، قلت ليس أولادى الذين أتعبوا الدنيا هم الذين يخافون زحام أو يرهقهم تنافس.. قالوا يمكن ذهبوا ليبحثوا عن عمل، فقلت وما ذنبى أنا؟ وما علاقة جحودهم لى بأعمالهم؟ لا ليسوا أبنائى من يفعلوا هذا بى.. قالوا لعل طموحاتهم وأحلامهم التى لم تتحقق أغضبتهم، فقلت وهل يحق لأولادى أن يغضبوا منى إذا ما عاندتهم الدنيا؟ بل هم أقوى من ذلك.. إنهم أبنائى وأعلمهم جيداً.. لا لم يفعلوا" ثم نظرت إليه وقالت فى أسى واضح: "لا.. لم يتركنى أبنائى، أنا متأكدة، لقد سرقهم أحد ما، أقنعهم بأنى ضعيفة مريضة.. فأهملونى، سرق منهم أفكارهم.. فتركونى، أخذ منهم أخلاقهم.. فأهانونى، أضاع منهم عزمهم وثقتهم.. فخذلونى". ثم قالت ودموعها ملء أجفانها: "أرجوك سيدى النائب.. أعد لى أبنائى".
سيدى النائب العام إن أمنا فقدت أكثر من نصف أبنائها عندما صاروا فى الطرقات يقتلون بعضهم البعض بسيارتهم.. يتقاتلون فى الملاعب وعلى صفحات الجرائد.. يهربون من مدارسهم وجامعاتهم فيقتلهم الجهل.. ينشغلون بإعلاء آرائهم عن إعلاء ثقافتهم.. يجمعون أموالهم ليهربوا من أمهم فيغرقون، أو يسجنون، أو يهانون.. أمنا تنادى على أبنائها فتجدهم يسبون الأديان ويتاجرون بالأحزان.. تجدهم يخاصمون النظافة والثقافة ويصادقون البلطجة والأنانية، إنها تنادى فيتركونها.. وما كانوا يفعلون.
إنه بلاغ للنائب العام بضياع أبناء لأول أم فى التاريخ وأعظمهم على وجه الإطلاق.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة