هناك شخصيات لا تنسى، تظل عالقة فى الذهن، قابعة فى اللاوعى، تطل برأسها أحياناً وتختفى لسنوات أحياناً أخرى، ولكنها لا تتبخر أو تنقشع، فهى شخصيات تكتسب خلودها من ارتباطها بالوجدان، تعقد صفقة مع المزاج الشخصى، تمنحها الخلود، وتضيف إليك معان بعضها ظاهر وبعضها الآخر خفى لا يبين، لتظل طول العمر كاشفة لك عما توارى من معانيها وأبعادها المتعددة.
"هيه .. مين اللى هناك؟؟" ..
العسس فى أركان الشوارع والحوارى الضيقة، والبصاصون يفتشون فى الأوراق والبطاقات والعقول والأفكار، لكأن كل إنسان يتحرك مع قرينه "الشاويش عطية"، فهو معه فى النوم واليقظة، وربما تسلل أيضاً إلى أحلامه كى يحولها إلى كوابيس، إنه الظل الملازم لأى حركة أو سكون، وأنا وأنت "سمعة" أو إسماعيل ياسين، نحبه ونخشاه، نشاكسه دون أن نقصد، وينزل على براءتنا أشد العقاب، فى الملهاة المأساة التى تضحكنا وتبكينا، بينما نجلس صامتين على مقاعد المتفرجين.
يحبه الكبار والصغار، ويكرهونه فى نفس الوقت، يحبون سذاجته وتلقائيته، ويكرهون قسوته وغباءه، يتعاطفون مع "سمعة"، ولكنهم لا يستعجلون انتصاره على الشاويش عطية، لأن ذلك يعنى انتهاء الفيلم، وانقضاء المتعة السادية فى متابعة معاناة "سمعة" التى تضحكهم وتسليهم، يتفاعلون مع الأحداث دون أن يتحركوا قيد أنملة من مقاعد المتفرجين، يصرخ الأطفال وهم يحذرون "سمعة" من ألاعيب "الشاويش عطية"، يجزع الكبار خشية أن تختلف النهاية، وينتصر الشر هذه المرة، ولكن تأتى النهاية السعيدة دائماً على الشاشة الفضية، وتضاء الأنوار، ويتأهب الرواد للمغادرة، بينما بعض الأطفال لا تزال تفكر فى مصير "الشاويش عطية".. أنه رغم كل شىء طيب وساذج وغبى ومضحك أيضاً.
ذات مرة سألت طفلة ذكية أباها: "لماذا ينتصر الفأر ميكى ماوس كل مرة على القط؟، ولماذا فى السينما فقط تنتصر الفئران على القطط؟.. وهو نفس السؤال الذى كان الأب يسأله لنفسه عندما كان فى نفس عمرها، لذلك حاول أن يشرح لها أن السينما تحاول أن تقدم نموذجاً لانتصار الخير على الشر، ولكنه لم يعرف كيف يشرح لها لماذا يمثل الفأر ميكى نموذج الخير، أو كيف يمكن للقط أن يمثل الشر، خاصة وهى تحب القطط وتراها نموذجاً للبراءة والجمال.
الفن يقدم لنا الوهم، وربما بعض الأمل، ولكن ماذا لو كان يقدم المخدر أيضاً؟.. عشرات الأفلام المصرية قدمت لنا البطل الفقير الذى ينجح دائماً فى اقتناص قلب ابنة الحسب والنسب، أو الفتاة البائسة التى تقهر قلب ابن الناس الذوات، ولابد أن مئات أو آلاف الشباب من مختلف الأجيال شربوا هذه الوصفة وعاشوا فى انتظار أن ينخلع قلب ذات الحسب والنسب والجمال، وربما لا يزالون ينتظرون حتى الآن.
من الثابت أن "اللى يخاف من العفريت يطلع له"، ولكن ما هو حال من يعيش طول الوقت مع العفاريت؟، لماذا يخاف، ومن أى شىء يخاف؟؟ وعلى أى شىء؟؟
عم فرغلى كان دائماً يتباهى بأنه لم يدخل قسم شرطة فى حياته، ليس لأنه مستقيم أو يحترم القانون، وإنما لأنه يتوارى عنه، فهو موظف مرتش، يزوغ من مكتبه، ويتخفى من المحصل فى الأتوبيس، وعينه زائغة على نسوان الجيران، ولكنه ما أن يصادف شرطى الدرك أو أمين شرطة حتى يرفع له يده تعظيم سلام!!
الولد سامح، الشهير باسم "فرقع لوز" أخذ علقة ساخنة من اثنين من أمناء الشرطة فى عارضة شارع قصر النيل منذ عدة سنوات، لأنه تجرأ وقال هامساً لإحدى الفتيات: "أنت حلاوتك بالهبل"، ورغم أن الفتاة لم تعترض، بل إنها ابتسمت واتسعت عيناها بهجة، ورغم أنها لا تتمتع بأى حلاوة سوى أن "فرقع لوز" يهوى المشاكسة لغرض المشاكسة والضحك على خلق الله، إلا أنه – وفقاً لتقدير رجال الأمن – خالف القانون.. كان فمه مليئاً بالدم وهو يقسم مكرراً: "والله العظيم باضحك.. بلاش أضحك؟؟!".
الضحك ليس ممنوعاً فى أفلام الراحل العظيم إسماعيل ياسين، فالجمهور يضحك شامتاً فى الشاويش عطية الذى يقع فى مقالب ساخرة، وهذه السعادة الشامتة تعكس سلوكاً نفسياً جمعياً ليس موجهاً بالضرورة ضد الشاويش عطية، وإنما ما يمثله فى اللاوعى الشعبى.
وأتذكر أننى قرأت – دون أن أتذكر أين ومتى – أن مؤسسة يابانية شهيرة وضعت فى مدخل مبنى المؤسسة تمثالاً مطاطياً بالحجم الطبيعى لرئيس المؤسسة، وكان العاملون فى المؤسسة يصفعون ويركلون التمثال ويبصقون عليه ذهاباً وإياباً إلى مقر عملهم، وقد رأت المؤسسة أن ذلك يساهم فى تفريغ شحنة الغضب والكبت من عبء العمل، حيث يصبون ذلك على الرئيس الذى يصدر القرارات.. ولكنهم – طبعاً – فى اليابان يعملون أيضاً.
الشاويش عطية كان يمثل هذا التمثال المطاطى، ولكن ليس لتفريغ الشحنات فقط، وإنما أيضاً لتثبيت الأحلام أو الأوهام، ففى النهاية سيتمكن "سمعة" المتخلف عقلياً من الاقتصاص منه، سيخرج رواد السينما فى حالة من النشوة لا يدركونها، وبعضها نتاج الوقت الضاحك المثير مع أحداث الفيلم، ولكن الجزء الأكبر هو ذلك الشعور الغامض بالشماتة فى الشاويش، وبالأمل المخزون فى احتمال أن ينتصر الخير على الشر.
إن ميكى ماوس لا ينتصر على القط لأنه أكثر قوة أو لأن الحق معه، وإنما لأنه أكثر ذكاء وأخف حركة وأشد تصميماً، فالخير وحده لا ينصر الأغبياء الكسالى معدومى الإرادة إلا فى أفلام إسماعيل ياسين، ولعل بعض أسباب نجاح هذه الأفلام هو أنها قدمت الوصفة السحرية التى تغنى عن استخدام العقل أو المبادرة بالفعل والحركة، أعنى أنها قدمت "الوهم".
وحتى لا يساء فهم ما تقدم، فأننى أؤكد إعجابى اللا محدود بأفلام المرحوم إسماعيل ياسين، ولا توجد لدى كراهية علنية أو مستترة للشاويش عطيه أو ما يمثله، بل إننى كنت أشفق عليه لقلة حيلته وانكساره المستمر أمام "سمعة"، وكم تمنيت أن يخطئ المخرج (أو يصيب) ولو مرة ويعطى الفرصة للشاويش كى ينتصر فى النهاية، فذلك أكثر واقعية وإقناعاً من إرضاع الناس بالوهم الكذوب.
لقد تطورت الكوميديا المصرية كثيراً بعد "سمعة" والشاويش عطية، بحيث أصبح الشرير الصعلوك مضحكاً ومنتصراً فى نفس الوقت، ومع ذلك استمرت صورة البطل المتخلف عقلياً والمنتهك اجتماعياً تحافظ على معادلة الوهم القديمة ومثال ذلك سلسلة "اللمبى" بدون الشاويش عطية.. وأخيراً، هل – كما يقال – الفن مرآة الحياة؟
* عضو اتحاد الكتاب المصرى