جمعنى لقاء.. وكان من الطبيعى أن أطرح عليه هذا السؤال.. لماذا أصبحت قضايا الرأى العام من القضايا التى لها تأثير على النيابة وعلى القاضى؟
ثم أعطيت الفرصة لمحدثى وهو واحد من أبرز شيوخ المحاماة فى مصر، العلامة الأستاذ بهاء الدين أبوشقة.. وحواره يقول إنه لا يسبح مع التيار فى قضايا الرأى العام، بل يعمل على ترشيد الرأى العام وتصحيح رؤيته فى القضايا التى جعلت من البرىء متهما.. بالأدلة والأسانيد.. وشيخنا أبوشقة يرى أن المحاماة رسالة وليست مهنة، وتأصيل الأدلة الجنائية لصالح المتهم هى مهمة المحامى «الشاطر»..
معنى كلامه أن قضايا الرأى العام مهما بلغت سخونتها فهى تخضع لمعايير حتى لو وصلت إلى منصة القضاء قبل القاضى، هذه المعايير تذكرنى برأى قاله الأستاذ الدكتور محمود كبيش، أستاذ القانون الجنائى ووكيل كلية حقوق القاهرة، عندما علق على حكم البراءة الذى صدر لصالح ممدوح إسماعيل، صاحب الباخرة السلام 58، فى محكمة أول درجة وكان وقتها صدمة للرأى العام الذى أعلن ثورته وغضبه على البراءة.. وأذكر أن مجلس الشعب هاج وماج على اعتبار أن إحدى لجانه أدانت ممدوح إسماعيل وجميع المتهمين فى القضية.. المفاجأة بعد الصياح والعويل ولطم الخدود على الأبرياء الذين راحوا فى هذا الحادث، والأطفال الذين فقدوا عوائلهم، والزوجات اللاتى ترملن، وبكاء أسر الضحايا داخل المحكمة، وما سبق الحكم من جلسات غاضبة.. جاء حكم المحكمة كالصاعقة على رؤوس أسر الضحايا.. وهو البراءة للجميع فيما عدا قبطان الباخرة سانت كاترين الذى كان من نصيبه 6 أشهر.. كان هذا الحكم مفاجأة للرأى العام.. لم يتوقعوا أن تكون النهاية هى البراءة..
وكان تحليل الدكتور لهذا الحكم.. أن المحكمة استندت فى قراراتها إلى الأوراق الرسمية.. وكون أن تبرئ مجرما فى نظر الشعب المصرى باختلاف فئاته الاجتماعية والسياسية يعود إلى أن المحكمة تنظر لأى قضية بعيدا عن الآراء والأهواء الشخصية وقد التزمت بالموضوعية..
.. ويضيف إلى رأيى قائلا: إن الحكم فى المسائل الجنائية بمثابة اقتناع أو عقيدة يؤمن بها القاضى، وفى الأحكام المتعلقة بالبراءة لا توجد صلاحية لأى أحد أن يسأل القاضى عن مبررات الحكم بالبراءة..
وهذا ما حدث فى قضية من قضايا الرأى العام قبل أن تستأنف النيابة حكم البراءة.. لكن الشىء الذى أحب أن أقوله هنا.. إن القضية رغم أنها قد هزت الرأى العام كله، وكانت حديث الشارع المصرى، وهجوم جميع وسائل الإعلام على المتهمين الذين تسببوا فى مقتل ما يزيد على الألف برىء لقوا حتفهم فى قاع البحر الأحمر بسبب إهمال وخطأ وجرم.. فإن القاضى لم يتأثر بما دار فى جلسات المداولة ولا بهجوم ولا بصيحات وصراخ أسر الضحايا.. ولا بمانشيتات الصحافة.. ولا بحوارات التليفزيون.. هو رأى أن يحكم بضميره وليس بضمير الرأى العام.. رأى البراءة.. ولذلك نطق بالبراءة فى شجاعة دون خوف من انتقام أو غضب أسر الضحايا الذين قاموا بتكسير المقاعد فى قاعة المحكمة.. لم يضع القاضى هذه الأمور فى ذهنه وهو يصدر الحكم.. بل كانت قناعته من الأوراق الرسمية التى كانت تحت يديه دون أن يعرف من هو ممدوح إسماعيل أو ولده.. صحيح أن الحكم لم يكن على هوى الرأى العام.. لأنه لم يشف غليله.. لكن القاضى فى هذه الليلة قد نام هادئا بعد أن ارتاح باله وضميره.. هكذا رأى.. والقانون كان سنده.
- وكون أن النيابة طعنت فى الحكم فلم تطعن لإرضاء الرأى العام.. لكنها رأت أن الأوراق الرسمية التى استند إليها القاضى فى حكمه قد خلت من أقوال بعض الناجين الواردة بقائمة أدلة الثبوت كما ورد بأسباب البراءة.. النيابة أكدت أن أقوال الشهود ثابتة بالتحقيقات، ولذلك استأنفت حكم البراءة على اعتبار أن الحكم به عوار استوجب الطعن عليه بالاستئناف..
وسبحان الله أن تصبح هذه القضية حديث مصر كلها بعد أن تصدت لها محكمة الاستئناف وأصدرت حكمها بحبس ممدوح إسماعيل 7 سنوات، وبراءة ولده عمرو ممدوح إسماعيل.. كما أدانت بقية المتهمين.. وربما يكون هذا الحكم هو الذى أثلج الصدور بعد إلغاء حكم البراءة..
إذن فى نهاية المشوار نجح الرأى العام فى الحصول على حكم أهدأ ثورة الغضب التى اجتاحت الشارع المصرى حزنا على دم الضحايا الذين راحوا مع غرق العبارة.. إن وفاة القبطان لم يهدئ ثورتهم بالقدر الذى أراحهم بعد إلغاء حكم البراءة..
وهنا يأتى سؤال: لماذا يتناول الرأى العام القضايا بعواطفه.. وليس بضميره.. وعندما يصدر حكم القضاء مختلفا عن التوقعات التى تنتظرها تثور الدنيا، وكأن هذا الحكم هو نهاية المطاف ويتحول كل منا إلى قاض يخرج علينا بحكم.. مع أننا لو وضعنا أنفسنا مكان القاضى الطبيعى لارتاحت النفوس وأخذ كل ذى حق حقه.. وأخذ المتهم جزاءه بضمير القاضى.. وليس بضمير الشارع المصرى.. فمثلا قضية كقضية ممدوح إسماعيل طالبنا بمحاكمته هو وصاحب الشركة وليس المسؤول.. أى التبعية هنا مفقودة فهو غير مسؤول عن جريمة ارتكبها موظف عنده.. ومع ذلك طالبنا بمحاكمته، ولم يشف غليلنا إلا بسجنه.. فى حين أن الرجل مثله مثل أى صاحب مركبة..
فلو افترضنا أنه يمتلك أسطولا من عربات الميكروباص التى تجرى فى شوارع القاهرة.. وانفلتت عجلة القيادة من أحد سائقى الميكروباص وقتل ثلاثين شخصا فى ميدان التحرير أو على محطة من محطات الأتوبيس هى تأتى به وتحاكمه..
ومثال آخر.. لو أن المكيف الذى فى بلكونة شقتك سقط فوق المارة تحت العمارة وسقط اثنان أو ثلاثة قتلى فهل تصبح أنت المسؤول وتقف أمام المحكمة، فى حين أن الشركة التى قامت بتركيب المكيف هى المسؤولة..
كلامى هنا ليس دفاعا عن ممدوح إسماعيل.. ولكن من واقع ضميرى وليس من واقع ثورتى وغضبى.. فالضحايا هم أهالينا.. وأموال الدنيا لن تعوضنا عنهم.. صحيح أن ممدوح دفع لكل أسرة من أسر الضحايا 300 ألف جنيه.. أى أن الرجل دفع ما يزيد على المليارين عن طريق المدعى العام الاشتراكى، وهذا التعويض لم يحصل عليه أى متوفى فى أى حادث سابق ولو لجأوا إلى المحاكم لتقدير التعويض لن تحكم بهذا الرقم إضافة لطول مدة التقاضى... ويبدو أن تعاطفه مع أسر الضحايا وضعه موضع الاتهام، وجعل منه المتهم الذى يبحث عن فقرة للإفلات من جريمته، مع أن الرجل أراد أن يخفف على أسر الضحايا مأساتهم وهو فى داخله على يقين ببراءته والتى نطق بها قاضى الدرجة الأولى..
الغريب أن التحقيقات همشت المسؤولين فى إدارة الموانى من هذا الحادث، مع أنهم مدانون.. كيف سمحوا بإبحار مركب بهذه الحمولة.. فهم الذين أعطوا التراخيص.. وأعطوا الصلاحية وعاينوا المركب قبل الإبحار ومع ذلك غسلوا أيديهم من الحادث.. بل كرمتهم وزارة النقل وقامت بترقيتهم.. فيهم من أصبح يدير شركة بحرية مكافأة له.. ولا أعرف لماذا هذا التكريم وهو متهم.. ومع ذلك فلت من الحساب..
فلماذا لم نسمع صوتا يطالب بمحاكمة المسؤولين فى التفتيش البحرى.. واكتفوا بمحاسبتهم إداريا.. وكأن الحكومة أرادت أن تسبح مع التيار وقدمت ممدوح إسماعيل كبش فداء عن إهمالها.
ومن قضايا الرأى العام التى لاتزال على الساحة.. قضية خالد سعيد التى أخذت شكلا جديدا بعد أن دخلت فى طريق مسدود.. الرأى العام كان له الفضل فى تغيير فى مسارها من التجاهل والنسيان وبالضغوط اضطرت النيابة العامة إلى إحالة المخبرين المتهمين بالضرب حتى الموت إلى محكمة الجنايات..
يبدو أن هذه القضية كانت نجم الشباك رقم واحد على الفيس بوك.. ومن خلاله حدث تضامن وتعاطف بين 200 ألف من أعضاء الفيس بوك الذين أشعلوها ثورة فى الشارع الاسكندرى حتى استسلمت أجهزة الأمن وقامت بتسليم المخبرين للنيابة العامة.
- هذا هو الرأى العام.. ولا أحد ينكر استجابة النيابة العامة إلى الشارع المصرى.. على الأقل بالتحقيق، أما القرار فقد تركته للقضاء إلى أن يقول كلمته..
وإذا كان الرأى العام قد كان موفقا فى مواقف عديدة.. فلا يمنع أنه كان محبطا فى بعض منها.. فمثلا.. الأمير القطرى الذى قتل خمسة مواطنين بالقرب من مطار القاهرة فى مباراة سباق السيارات عندما قفز بسيارته على الرصيف وقتل طيارا مدنيا وهو أحد أحفاد الزعيم الوطنى محمد فريد ومهندسا وثلاثة طلبة جامعيين.. ثم هرب بطائرته الخاصة إلى قطر.. يومها ثار الرأى العام.. وطالب الإنتربول بالقبض عليه.. وكانت المفاجأة أن تقبل الحكومة المصرية بمحاكمته فى قطر دون أن تطالب برأسه فى القاهرة، حفاظا منها على العلاقات بينها وبين البلدين.. فعلا أثبتنا أنه لا كرامة لمصرى فى وطنه.. فالحكومة تبيع المصريين من أجل حفنة دولارات!
ما حدث مع الأمير القطرى.. حدث مع زوجة الأمير تركى التى تركت كلابها تنهش فى لحم المصريين بفندق «الموفنبيك» فى 6 أكتوبر.. وللأسف تم حفظ جميع التحقيقات بعد أن ضغطوا على المصابين بالتنازل عن حقوقهم وهذه هى عادة الحكومة مع أولادها المصريين.. وكم من القضايا تسقط فيها أرواح.. وتضيع معها الكرامة.. لأننا لم نجد من يرفع رؤوسنا سواء على أرض مصر أو خارجها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة