مرسى الحلوانى صديق من أصدقاء الطفولة، أتذكره، وليس للشيخ سوى استدعاء أيام بعيدة، كان مرسى على الدوام نشيطاً فى كل شىء عدا الدرس والتحصيل، يقفز فوق سور المدرسة، يخطف الساندويتشات من الجميع، يمزق كرارسينا وكتبنا، يشتمنا بكلمات كانت بالنسبة لنا اكتشافات جديدة فى اللغة، ولكنه رغم ذلك كان محل شغفنا جميعاً، فقد كان يدخل بنا فى حكاياته التى لا تنتهى إلى مدن ساحرة غامضة جميلة، ولا زلت أذكر حكاية بالذات رواها لنا وهو يطلب أن يدفع كل منا تعريفة (نصف قرش) كى يستكملها إلى نهايتها…
أبوه محروس الحلوانى قرر أن ينضم إلى الفدائيين، فقام بسرقة بندقية عسكرى الدرك، وركب حصاناً أبيض حتى دخل إلى فلسطين، وقام بقتل بن جوريون وموشى دايان، ثم عاد فى المساء كى يلحق بوجبة العشاء الشهية التى أعدتها أم مرسى: "ملوخية وجوز فراخ شامورت وحلى ببلح الشام، ثم حبس بكرسى معسل، وبعد ذلك قام مع زوجته بالواجب!! …
كانت تفاصيل هذه الحكاية كثيرة لا أتذكرها الآن، ولكن مرسى كان يتعمد الإطالة والمط كى يضمن الإثارة ومعها قروشنا القليلة على مدى أيام متتالية، وكنا ندفع صاغرين، بل راضين وراغبين، فقد كان الواحد منا يأتى فى الصباح وقد ملأه الشوق للاستماع إلى باقى حلقات الحكاية، وكم من مرة سأله أحدنا أن يذكر لنا نهاية الحكاية حتى نطمأن على أبيه، رغم أننا كنا نرى عم محروس الحلوانى حياً يرزق مثل الفحل، ولكن أسلوب مرسى كان يوحى بأن نهاية مأساوية سوف تلحق بأبيه، أو هكذا كنا نشعر، فقد كان يصور لنا الأعداء (بن جوريون وموشى دايان) وكأنهما وحوش أسطورية لها ذيول، عيونها تطق بالشرر، ينتظران أباه فى كل ناصية كى يتصيدانه، ولكنه فى كل مرة يفلت ببراعته وبقوة السحر الذى يملكه، لقد كان بن جوريون فى حكاية مرسى مثل القط ذى السبعة أرواح، ففى كل مرة ينجح عم محروس فى قتل بن جوريون كى يكتشف أنه عاد مرة أخرى للحياة، وبالطبع كان عبثاً أن نسأل مرسى عن إمكانية حدوث ذلك لإنسان، لأنه سوف يطلق علينا لسانه السليط، وربما قبضته التى لا ترحم، وربما لأننا كنا بشكل ما نستمتع بإمكانية قتل ذلك العدو الرهيب عدة مرات.
لقد التصقت هذه الحكاية فى خيالى لسبب آخر، وهو أننا فى نهاية العام وأثناء اختبارات القبول الإعدادى، كان الموضوع الرئيسى للتعبير فى اختبار اللغة العربية هو كتابة قصة عن فدائى مصرى قام بعملية فى إسرائيل، وبالطبع لم أجد أفضل من حكاية مرسى، وظللت أكتبها حتى ضاع أغلب الوقت، ولم أتمكن من إجابة باقى الأسئلة سوى بصعوبة نتيجة لقرب انتهاء توقيت الامتحان، وبالتالى كانت درجتى فى مادة اللغة العربية – وعلى عكس توقعى وتوقع الكثيرين – أقل درجاتى فى هذه الاختبارات، رغم أننى كنت شديد التفوق فى اللغة العربية.
لقد رسب مرسى فى امتحانات ذلك العام والعام التالى له، وتعثر فى مساره الدراسى حتى تمكن من الحصول على الشهادة الإعدادية بصعوبة، ثم تطوع بعد ذلك فى الجيش، وسرعان ما تزوج وأنجبت له زوجته أربعة أطفال.. كان الأول بين رفاق الطفولة فى الدخول إلى الحياة العملية والزواج، ورغم أن ظروفه وظروفنا باعدت بيننا، إلا أننى ظللت على اتصال متقطع به، وذات مرة أصر على دعوتى للغذاء فى منزله، كان شديد الفخر بالشقة الصغيرة التى استأجرها فى مبنى قديم بجوار خط السكك الحديدية، وهناك تعرفت لأول مرة على زوجتـــه "زوبة" التى بدت طفلة كبيرة إلى جوار باقى أطفالها، وكان يتحدث إليها بخشونته المعتادة، وكلماته الإباحية المكشوفة دون خجل، وهى تنظر إليه بإعجاب ممزوج بعتاب خفيف، وظل طول الوقت يحدثنى عن أعماله الخطيرة فى الجبهة ضمن قوات المظلات، وكيف قام بالسباحة طول الليل حتى وصل إلى جنوب سيناء، ونفذ عملية قام فيها بقتل عشرة جنود إسرائيليين وخطف اثنين منهما، وعاد بهما سباحة مرة أخرى إلى خليج السويس.. كانت حرب الاستنزاف خلال هذه الأيام على أشدها، ولذلك كنت أميل إلى تصديقه رغم قناعتى بأنه يبالغ بعض الشىء.
بعد سنوات، وفى احتفال أقامته إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة فى نادى ضباط الجلاء لتوزيع جوائز القصة القصيرة، والتى حصلت فيها على الجائزة الأولى لأفضل قصة عن حرب أكتوبر، سمعت صوت المذيع الداخلى ينادى على أسماء بعض أرامل الشهداء لاستلام هدايا خاصة فى هذه المناسبة، "السيدة حرم الرقيب الشهيد / مرسى محروس الحلوانى".. وكأن صاعقة ضربتنى فى نفس اللحظة، التفت بسرعة كى أرقبها وهى تتقدم إلى المنصة الرئيسية، كانت تبدو سيدة عجوز انحنى ظهرها، وهى تسير مرتبكة حائرة …
بعد انتهاء الحفل توجهت إليها، ذكرتها بنفسى، أدمعت عيناها ثم انتحبت، كان ابنها الأكبر محروس معها، جلسنا فى حديقة النادى، علمت منها أن مرسى اتصل بها بعد انتهاء الحرب، قال لها إنه موجود فى مدينة السويس ضمن كتيبة الشئون الإدارية التى تحركت من الروبيكى إلى السويس مع بعض الإمدادات، وأنه سيعود فى اليوم التالى وربما تمكن من الحصول على إجازة قصيرة، وطلب منها إعداد "فرختى شامورت، وصحن ملوخية، وبلح الشام"، ولكنه لم يأت، وعلمت بعد ذلك أنه استشهد عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف موقعه فى مدينة السويس..
تحدثت معى عن صعوبة الحياة، قالت لى إنها اضطرت لإخراج ابنها الأكبر محروس من المدرسة كى يعمل فى ورشة نجارة ويتعلم صنعة تنفعه ويساعد فى الإنفاق على باقى أشقائه.. نظرت إلى محروس، كان يحمل نفس ملامح أبيه، وتحدثت معه بعض الوقت عن بطولة أبيه فى معارك قوات المظلات أثناء حرب الاستنزاف، ورويت له حكاية السباحة الطويلة فى خليج السويس والعملية البطولية التى قام بها فى جنوب سيناء، فقال لى مندهشاً إن أباه لم يخدم أبداً فى المظلات، كما أنه يخاف من البحر ولا يعرف السباحة!!..
طلب منى محروس الصغير أن أروى له عن بعض بطولات قوات الصاعقة فى الحرب، فاستجبت له، ورويت له بعض الأعمال القتالية، فى حين كانت عيناه تتسعان وهو ينصت باهتمام، وفجأة قال لى إن جده محروس رحمه الله كان أيضاً بطلاً، وروى لى حكايته أثناء حرب 1948، عندما ركب حصانه الأبيض، ودخل إلى تل أبيب، وقام بقتل الأعداء، ثم عاد كى يتناول طعام العشاء: "ملوخية وجوز فراخ شامورت وحلى ببلح الشام، ثم حبس بكرسى معسل، وبعد ذلك قام مع زوجته بالواجب"، ولم أستطع أن أقاوم رغبتى فى الضحك، ونظرت إلى والدته "زوبة" التى كانت تنظر إلى إبنها بإعجاب …
فى تلك الليلة عدت أفتش فى أوراقى القديمة حتى عثرت على الصورة الوحيدة التى أملكها لصديق الطفولة، حيث إننا تبادلنا صورنا فى نهاية عامنا الأخير فى المدرسة الابتدائية، وكنا نتفنن فى كتابة بعض العبارات على ظهر كل صورة، بعضها من موروثات المحفوظات الشعرية التى درسناها، وبعضها الآخر تعبير صادق وبرىء عن الحب والشعور المبكر بالافتقاد إلى الصديق..
كانت الصورة قد حالت نتيجة للتخزين الطويل، ولكن ملامح وجهه الأسمر ذو التقاطيع الحادة، وعيناه الواسعتان السوداويان وكأنهما تنظران بحدة إلى الأمام، وأنفه الدقيق الصغير، وهو يرتدى قميصا أبيضا بسيطا.. وعلى ظهر الصورة وجدت الكلمات التى كتبها لى بخط ركيك وبأخطاء لغوية: "إلى أخى ورفيك الدرب الطويل.. تذكرنى فأن الذكرى تدك كالناقوص فى علم النسيان.. إلى اللقاء فى تل أبيب" …
مسحت دمعتى وأن أعيد النظر إلى ملامحه فى الصورة، وأستجمع ذكريات تلك الأيام الدافقة الحماسية التى شكلت زمان طفولتنا.. تنهدت فى أسى وأنا أهمس لنفسى: "لا زلت يا مرسى فى انتظار الذى لا يجىء" …
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة