جرح لم تشفه الموسيقى هو جرح لن يندمل، والموسيقيون المهرة كالجراحين المحترفين، يعرفون أين يكمن الداء، يرونه فتنتفض حواسهم معلنين الحرب على ما بالواحد من وجع، يستخرجونه من الأبدان والأرواح، بأصابعهم الرقيقة، فيصبح الألم نسيا منسيا، يرتجف الوتر، يضرب الإيقاع، يأن الناى، فيبتهج الوجدان، وتنعم النفس وتصبح الروح أخف من نسمة الشمال الرقيقة الرقراقة، إنى أحدثكم عما حدث فى مهرجان بعلبك للموسيقى والفنون، حينما استسلمت روحي، أطرافى وابتهجت النفس بما سمعت، فكان ما كان من فرح وكان ما كان من موسيقى.
ثلاثون عازفاً، يدقون على آلاتهم فتحسبهم هم وآلاتهم كيان واحد، يحركون أياديهم ورؤوسهم وهم كالبنيان المرصوص، على رأسهم يجلس الفنان العراقى نصير شمة، تنظر إليه وكأنك تنظر إليهم، وتنظر إليهم وكأنك تنظر إليه، واحد فى الكل وكل فى واحد، لكل منهم لونه وطعمه وتجلياته المتفردة، لكنهم فى حب الفن واحد وفى التزامهم واحد وفى انسجامهم واحد، كعسل النحل الربانى مختلف ألوانه ومذاقه وتركيبه، لكن الشفاء الكامن فيه واحد والطعم "الحلو" أيضا واحد.
أوركسترا تضم إلى جانب قائدها نصير شمة عازفين اثنين على البزق، وثلاثة للإيقاع، والباقى على العود، جنسياتهم العربية المختلفة وثقافاتهم المتعددة، وبيئاتهم المتباينة لم تمنعهم من الانصهار فى حب الموسيقى، لتنجح النغمة فيما فشلت فيه السياسة، وتذوب الفوارق والحدود والنزاعات، ويتآلف الجميع فى حالة جمالية فريدة من الوحدة والتنوع، لا فرق بين الفلسطينى ولا العراقى ولا المصرى ولا السورى ولا الإماراتى، كلهم واحد، ولا فرق بين الشيعى ولا السنى ولا المسلم ولا المسيحى ولا العربى ولا الكردى، الكل يتكلم موسيقى ويحب موسيقى ويتألق موسيقى، حتى الجماهير التى حضرت من كافة بقاع العالم العربى تراهم هم الآخرون واحداً، ألفان من بقاع وديانات وبلاد شتى، لكن البهجة التى عمت الجميع لم تفرق بين أحد.
قبل الدخول إلى قاعة الحفل التى هى فى الأساس معبد رومانى قديم، تطالعك صورة حسن نصر الله فى كل مكان، وقبل ميعاد الحفل بساعة تقريبا دوت أصوات الطلقات التى قيل لى إن مصدرها تدريبات الجيش، لكن قبيل الحفل بدقائق دوت طلقات أخرى ابتهاجاً بالموسيقى وإعلاناً عن بدء الحفل المنتظر، وقبيل الدخول إلى المعبد الذى يطلقون عليه اسم "قلعة" تزييفا للتاريخ والآثار، يقع متحف المقاومة، وصور حسن نصر الله كبطل أسطورى، لكن ما أن تدخل إلى قاعة الحفل الرئيسية التى يقابلها معبد زيوس "كبير الآلهة عند الرمان واليونان" ويقع خلفها معبد باخوس "إله المتعة" حتى ينتصر التاريخ وتنتصر الآثار، فكان العازفون يضربون على آلاتهم وكأنهم مدفوعون بقوة الحياة والفرح من ورائهم، متوجهين بألحانهم وأنغامهم إلى المطلق الأخاذ أمامهم.
تنوع الألحان والعازفين والمعزوفات أنست الجميع "الزمن" فعزفت الفرقة لما يقرب من الساعتين دون أن يتذمر أحد، وحينما انتهى برنامج الحفل طلب الجمهور من "شمة" أغنية "أنت عمرى"، فكانت الصقفة واحدة والكلمة واحدة والنغمة واحدة، وعزفت الأوركسترا خلال الحفل مقطوعات عديدة من أبرزها "جدارية الحياة، وجولة فى التراث العربى، وبنفسج الأنامل، وجولة فى الأسواق العربية، وأرض الإسراء، ومصير واحد، وسماعى بياتى" لتمتزج الألحان المصرية مع الموسيقى العراقية والشامية وموسيقى شمال أفريقيا، وبين المقطوعات حرص شمة على أن يتيح الفرصة لأفراد الفرقة للإعلان عن أنفسهم ومواهبهم، فقدم السورى "بحر" فى تقاسيم حرة، والمصرى طارق عبد الله مدرس الموسيقى بجامعة ليون بفرنسا كصولو داخل المقطوعات، كما قدم شمة العازف المصرى محمد أبو زكرى صاحب التسعة عشر عاما والذى يدرس الموسيقى بفرنسا كأصغر أستاذ عود فى الشرق الأوسط، وعزف أبو زكرى مرتين كصولو الأولى فى أغنية "عاشق الروح" والثانية فى تقاسيم ارتجالية حرة، وفى المرتين انتزع إعجاب الجميع بمهرته التكنيكية وإحساسه المرهف، والمتأمل لـ "حالة أبو زكرى وشمة" يجد أن بينهما علاقة خاصة.
فحينما كان شمة يعزف بالعود المثمن، احتضن أبو زكرى عوده وأغمض عينيه فظنه الجميع نائماً، بينما كان هو "هائما"، وحينما كان يعزف أبو زكرى ارتسمت على وجه "شمة" ابتسامة الفخر والاعتزاز والمحبة والإعجاب، وقبل انتهاء الحفل قدم "شمة" أصغر عازفى بيت العود العراقى يوسف عباس، الذى مهد لمقطوعة "الفراشة" بتقاسيم ارتجالية تنبأ عن عازف ماهر وموسيقى يعرف من أين تأتى آهة الانتشاء، ثم عزفت الفرقة كلها فى الختام مقطوعة "الفراشة" فوقف الجمهور كله رافعا يديه بالتصفيق وكأنها أجنحة ملونة لفراشة طليقة تزهو على مدرجات بعلبك بحرية وانسيابية ودلال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة